)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) ( البقرة:159 )
التفسير:
قوله تعالى:{إن الذين يكتمون} أي يخفون ؛لكنه لا يكون كتماً إلا حيث دعت الحاجة إلى البيان إما بلسان الحال ؛وإما بلسان المقال .
قوله تعالى:{ما أنزلنا من البينات}؛{البينات} جمع بينة ؛وهي صفة لموصوف محذوف ؛والتقدير: من الآيات البينات .
قوله تعالى:{والهدى}: أي العلم النافع الذي يهتدي به الخلق إلى الله عزّ وجلّ .
قوله تعالى:{من بعد ما بيناه} أي أظهرناه ؛{للناس} أي للناس عموماًالمؤمن ،والكافر ؛فإن الله تعالى بين الحق لعموم الناس ،كما قال تعالى:{وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [ فصلت: 17]؛فكل الناس قد بين الله لهم الحق ؛لكن منهم من اهتدى ؛ومنهم من بقي على ضلاله .
قوله تعالى:{في الكتاب}: المراد به جميع الكتب ؛فهو للجنس ؛فما من نبي أرسله الله إلا ومعه كتاب ،كما قال تعالى:{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} [ الحديد: 25] ،وكما قال تعالى:{كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} [ البقرة: 213] .
قوله تعالى:{أولئك يلعنهم الله}؛{أولئك} مبتدأ ؛وجملة{يلعنهم الله} خبره ؛والمبتدأ الثاني ،وخبره خبر «إن »؛و{يلعنهم الله} أي يطردهم ،ويبعدهم عن رحمته ؛لأن «اللعن » في اللغة: الطرد ،والإبعاد .
قوله تعالى:{ويلعنهم اللاعنون} أي يسألون لهم اللعنة ؛وهم أيضاً بأنفسهم يبغضونهم ،ويعادونهم ،ويبتعدون عنهم .
الفوائد:
1- من فوائد الآية: أن كتم العلم من كبائر الذنوب ؛يؤخذ من ترتيب اللعنة على فاعله ؛والذي يرتب عليه اللعنة لا شك أنه من كبائر الذنوب .
2- ومنها: الرد على الجبرية ؛لقوله تعالى:{يكتمون}؛والكاتم مريد للكتم .
3- ومنها: أن ما أنزل الله من الوحي فهو بيِّن لا غموض فيه ؛وهدًى لا ضلالة فيه ؛لقوله تعالى:{من البينات والهدى من بعد ما بيَّنَّاه للناس في الكتاب}؛والبيان ينقسم إلى قسمين: بيان مفصل ؛وبيان مجمل ؛فالمجمل هي القواعد العامة في الشريعة ؛والمفصل هو أن يبين الله سبحانه وتعالى قضية معينة مفصلة مثل آيات الفرائض في الأحكام ؛فإنها مفصلة مبيّنة لا يشذ عنها إلا مسائل قليلة ؛وهناك آيات مجملة عامة مثل:{يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [ المائدة: 1]: فهو بيان عام ؛وكذلك بعض القصص يذكرها الله سبحانه وتعالى مفصلة ،وأحياناً مجملة ؛وكل هذا يعتبر بياناً .
4 ومن فوائد الآية: الرد على أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم بأهل التأويل ؛لأن لازم طريقهم ألا يكون القرآن بياناً للناس ؛لأن الله أثبت لنفسه في القرآن صفات ذاتية ،وفعلية ؛فإذا صرفت عن ظاهرها صار القرآن غير بيان ؛يكون الله سبحانه وتعالى ذكر شيئاً لا يريده ؛وهذا تعمية لا بيان ؛فيستفاد من هذه الآية الرد على أهل التأويل ؛والحقيقة أنهمكما قال شيخ الإسلامأهل التحريف لا أهل التأويل ؛لأن التأويل منه حق ،ومنه باطل ؛لكن طريقهم باطل لا حق فيه .
5 ومن فوائد الآية: الرد على أهل التفويض الذين يقولون: إن آيات الصفات وأحاديثها لا يعلم الخلق معناها ؛وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قولهم من شر أقوال أهل البدع والإلحاد .
6 ومنها: بيان فضل الله عزّ وجلّ على عباده بما أنزله من البينات ،والهدى ؛لأن الناس محتاجون إلى هذا ؛ولولا بيان الله سبحانه وتعالى وهدايته ما عرف الناس كيف يتوضؤون ،ولا كيف يصلون ،ولا كيف يصومون ،ولا كيف يحجون ؛ولكن من فضل الله أن الله سبحانه وتعالى بيّن ذلك .
7 ومنها: إثبات علو الله ؛لقوله تعالى:{ما أنزلنا}؛والنزول إنما يكون من أعلى ؛وعلو الله بذاته ثابت بالكتاب ،والسنة ،والإجماع ،والعقل ،والفطرة .
8 ومنها: قبح هذ الكتمان الذي سلكه هؤلاء ؛لأنه كتمان بعد بيان ؛ليس لهم أن يقولوا: «ما تكلمنا ؛لأنّ الأمر مشتبه علينا » ؛فالإنسان الذي لا يتكلم بالشيء لاشتباه الأمر عليه قد يعذر ؛لكن الذي لا يتكلم مع أن الله بينه للناس يكون هذا أعظم قبحاًوالعياذ بالله .
9 ومنها: وجوب نشر العلم عند الحاجة إليه سواء ظهرت الحاجة بلسان الحال ،أو بلسان المقال ،ولسان الحال: أن ترى إنساناً يعمل عملاً ليس على الوجه المرضي ؛فهذا لسان حاله يدعو إلى أن تبين له الحق ؛ولسان المقال: أن يسألك سائل عن علم وأن تتعلمه ؛فيجب عليك أن تبلغه ما دمت تعلم ؛أما إذا كنت لا تعلم فإنه يجب أن تقول: «لا أدري » ،أو «لا أعلم » ؛كذلك لو رأيت الناس عمّ فيهم الجهل في مسألة من أمور الدين ؛فهنا الحاجة داعية إلى البيان ؛فيجب أن تبين .
10 ومن فوائد الآية: أن الكتب السماوية كلها بيان للناس ،لأن قوله تعالى:{في الكتاب} المراد به الجنس لا العهد ؛فالله تعالى بين الحق في كل كتاب أنزله ؛لم يترك الحق غامضاً ؛بل بينه لأجل أن تقوم الحجة على الخلق ؛لأنه لو كان الأمر غامضاً لكان للناس حجة في أن يقولوا: ما تبين لنا الأمر .
11 ومنها: أن الرجوع في بيان الحق إلى الكتب المنزلة .
12 ومنها: أن هؤلاء الكاتمين ملعونون ؛يلعنهم الله ،ويلعنهم اللاعنون ؛لقوله تعالى:{أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} .
13 ومنها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عزّ وجلّ ؛وهي كل فعل يتعلق بمشيئته ،مثل النزول إلى السماء الدنيا ،والمجيء للفصل بين عباده ؛والاستواء على العرش ؛والضحك ؛والكلام ؛والتعجب ؛وما إلى ذلك ؛كل فعل يتعلق بمشيئة الله عزّ وجلّ فإنه من الأفعال الاختيارية ؛و«اللعن » منها ؛ويدل على أنه منها أن له سبباً ؛وما كان له سبب فإنه يوجَد بالسبب ،ويعدم بعدمه ؛إذاً فاللعن من الأفعال الاختيارية .
14 ومنها: جواز الدعاء باللعنة على كاتم العلم ؛لقوله تعالى:{يلعنهم اللاعنون}؛لأن من معنى{يلعنهم اللاعنون} الدعاء عليهم باللعنة ؛تقول: اللهم العنهم ؛ولا يلعن الشخص المعين ؛بل على سبيل التعميم ؛لأن الصحيح أن لعن المعين لا يجوز - ولو كان من المستحقين للعنة ؛لأنه لا يُدرى ماذا يموت عليه ؛قد يهديه الله ،كما قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} [ آل عمران: 128]؛وأما لعنه بعد موته أيجوز ،أم لا يجوز ؟فقد يقال: إنه لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا »{[219]} ؛وهذا عام ؛ثم إنه قد يثير ضغائن ،وأحقاد من أقاربه ،وأصحابه ،وأصدقائه ؛فيكون في ذلك مفسدة ؛ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت »{[220]} ؛وأيّ خير في كونك تلعن واحداً كافراً قد مات ؛وأما طريقته فالواجب التنفير عنها ،والقدح فيها ،وذمها ؛أما هو شخصياً فإنه لا يظهر لنا جواز لعنه - وإن كان المعروف عند جمهور أهل العلم أنه يجوز لعنه إذا مات على الكفر .
15 ومن فوائد الآية: عظم كتم العلم ،حيث كان من الكبائر ؛وكتم العلم يتحقق عند الحاجة إلى بيانه إما بلسان الحال ؛وإما بلسان المقال ؛فإن من سُئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار إلا أن يكون السائل متعنتاً ،أو يريد الإيقاع بالمسؤول ،أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض ،أو يترتب على إجابته مفسدة ،فلا يجاب حينئذ ؛وليس هذا من كتم العلم ؛بل هو من مراعاة المصالح ،ودرء المفاسد .
مسألة:
دفع الفتوىوهو أن يحوِّل المستفتي إلى غيره ،فيقول: اسأل فلاناً ،أو اسأل العلماء - اختلف فيها أهل العلم: هل يجوز ،أو لا يجوز ؟والصحيح أنه لا يجوز ؛إلا عند الاشتباه فيجب ؛أما إذا كان الأمر واضحاً فإنه لا يجوز ؛لأنه يضيع الناس لا سيما إذا كان الإنسان يرى أنه إذا دفعها استُفتي أناس جهال يضلون الناس ؛فإنه هنا تتعين عليه الفتوى ؛ويستعين الله عزّ وجلّ ،ويسأل الله الصواب والتوفيق .
16 ومن فوائد الآية: استحقاق الكاتمين للعنة الله ،ولعنة اللاعنين .
قد يقول قائل: هذا تحصيل حاصل ،لأنه كقول القائل: قام القائمون ،أو يقوم القائمون ،ويدخل الداخلون .
فالجواب: لا ،لأنه ليس كل من نسب إليه الوصف يكون قائماً به على الوجه الأكمل ؛قد تقول: «قام القائمون » بمعنى أنهم أتوا بالقيام على وجهه ؛فمعنى{يلعنهم اللاعنون} أي الذين يعرفون من يستحق اللعنة ،ويوجهونها إلى أهلها ؛فهم ذوو علم بالمستحِق ،وذوي حكمة في توجيه اللعنة إليه ؛ونظير ذلك قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله ...} [ النساء: 136] الآية ؛فناداهم باسم الإيمان ،وأمرهم به ؛أي بتحقيقه ،والثبات عليه .
إذاً هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات ،والهدى مع ظهوره ،وبيانه يستحقون - والعياذ بالله - هذا الجزاء الوخيم من الله ،ومن عباد الله ؛وعكس ذلك الذين يبينون الحق - نسأل الله أن يجعلنا منهم ؛فهؤلاء يكون لهم المودة ،والمحبة من الله ،ومن أولياء الله ؛وقد ورد في حديث أبي الدرداء الطويل أن العالم يستغفر له أهل السموات والأرض حتى الحيتان في الماء{[221]} ؛لأن الذي يبين شريعة الله يُلقي الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده مودته ،ومحبته ،والقبول له حتى في السماء ؛ونحن نعلم ذلك - وإن لم يرد به نص خاص - عن طريق القياس الجلي: فإذا كان الله سبحانه وتعالى يعاقب الكاتمين بهذه العقوبة الواقعة منه ،ومن عباده ؛وهو الذي سبقت رحمته غضبه ،فالذين يبينون البينات ،والهدى يستحقون أن يثني الله سبحانه وتعالى عليهم بدلاً من اللعنة ،ويقربهم بدلاً من البعد .
17 ومن فوائد الآية: أنه يجب على من قال قولاً باطلاً ،ثم تبين له بطلانه أن يبينه للناس إلا إذا كان اختلاف اجتهاد فلا يلزمه أن يبين بطلان ما سبق ؛لأنه لا يدري أيّ الاجتهادين هو الصواب .