ويختم الله تعالى الكلام في أهل الكتاب ببيان أقبح ما كانوا يعملون ، وهو كتمان آياته ، ويكتبون بدلها بأيديهم ما يسمونه كتاب الله على أنه من عنده سبحانه ، وما هو من عنده فقال تعالى:{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} ، البينات الأخبار البينة ، والأحكام المبينة في الكتاب بعد بيانها ، وقد أنزلها الله تعالى في كتبه التي كانت للنبيين السابقين ، والهدى هو ما بينه سبحانه من أوامر ومنهيات ، فمن كتم البينات الدالة على الرسالات ، والأخبار الصادقة عن النبيين ، والأحكام الهادية إلى الصراط ، فقد كتم علم الله ، والكتمان للعلم ، إنما يكون حيث تكون الحاجة إلى البيان من قبل أن يكون المقام مقام بيان وتوجيه وإرشاد ، فيكون ممن عنده علم كما أنكر اليهود والنصارى ما عندهم من علم بالنبي صلى الله عليه وسلم ومكة وما حولها ، وإبراهيم وأولاده ، وكما ينكر العلم من يسأل عنه فلا يجيب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار ){[131]} .
والآية موضوعها كل كتمان لعلم أو هداية ، وقالوا إنها نزلت في اليهود ، ولكن حكمها عام يشمل كل كتمان لعلم فيه هداية للناس ، فيشمل الذين يعلمون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يبلغونها للناس ، ومن لا يبينون الشرع الإسلامي لأهله ، قربوا أو بعدوا ، ولمن يجهله ، فإنه كما قال علي كرم الله وجهه:لا يسأل الجهلاء لم لم يتعلموا ، حتى يسأل العلماء لم لم يعلموا .
وقد حكم الله تعالى على الذين يكتمون العلم بقوله تعالت كلماته:{ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} اللعن الإبعاد والطرد ، والنبذ من جماعة الخير ، وجماعة الحق ، وأولئك إشارة إلى الذين يكتمون العلم ، والإشارة إلى موصوف بوصف ، إشارة إلى أن الوصف علة الحكم ، فكتمان العلم علة للإبعاد عن رحمة الله تعالى ، ونبذه من الناس ، ولعن الوجود كله ، واللاعنون تشمل الملائكة والجن والإنس ، وكل من يسبح بحمد الله تعالى .
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:( إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ){[132]} وهذا إذا بين العلم وذكره للناس وهدى من ليس عنده علم ، فإذا كتمه لعنه كل شيء لعنته الملائكة ، ولعنه الناس ، ولعنه كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ، فاللعن عند الكتمان جزاء ، هو نظير الاستغفار عند البيان .