وقد استثنى من هؤلاء الملعونين الذين يبينون من بعد الكتمان ، فقال تعالى:{ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا} التوبة هي الإقلاع عن الذنب ، والشعور بالندم ، والعزم المؤكد على ألا يعود إليه من بعد ، وإذا كان الذنب بالترك عمل ، وإذا كان الذنب بالعمل ترك ، فذنب الكاتمين كان بترك البيان والتبليغ فتكون التوبة بالبيان والتبليغ ، ولذلك قال تعالى "وبينوا"أي أكدوا بفعل نقيض ما ارتكبوا .
وقوله "وأصلحوا"، أي تركوا الإفساد واتجهوا إلى الإصلاح ، وعمارة الوجود ، ونشر الخير بين الناس وإرشادهم إلى أقوم السبل في هذه الحياة ، وفي ذلك إشارة إلى أمرين جليلين:
أولهما- أن كتمان العلم فيه فساد في الأرض ، لأنه يجعل الناس في متاهة من الباطل فتنقلب الأوضاع ، ويختلط الحق بالباطل ، ولا يعرف الناس سبيلا للهداية ، وتسد مسالك الخير ، إذ لا هادي إلا أن يرحم الله عباده بها ، ويرشدهم إليها .
ثانيهما- إن بيان الخير والحق هو الإصلاح في هذا الوجود فلا سلامة يسكت فيها الحق ، وينطق فيها الباطل ، وقد لعن بنو إسرائيل لسكوتهم عن البيان في وقت الحاجة إليه ، وقد قال تعالى:{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 78 كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون 79} [ المائدة] وكما قالت الحكمة:السكوت عن الحق نطق بالباطل ، والساكت عن الحق ناطق بالباطل .
وقد جزى الله تعالى التائبين العاملين المؤكدين لتوبتهم بالبيان للحق والإصلاح بأنه يقبل توبتهم ، فقال تعالت كلماته:{ فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} .
هنا التفات من الإخبار إلى التكلم ، فالله تعالى أخبر عنهم في قوله تعالى:{ إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} إلى آخر الآية ، ثم التفت من الإخبار إلى التكلم عند الجزاء ، وكذلك الأمر في أكثر البيان يكون ذكر المعاصي والتوبة منها بالإخبار أو الخطاب ، ويكون الجزاء من الله تعالى بضمير المتكلم تربية للمهابة ، والإشراق في النفس ، والإشعار بالرضا ، وإن قبول التوبة أحب إلى العاصي التائب من كل ما في الوجود ، وهو رفع له من ذلة الذنب وخسته إلى رفعة الحق وعزته ، ولذا قال عز من قائل:{ فأولئك أتوب عليهم} الإشارة إلى الموصوفين بالتوبة الذين بينوا ما كتموا وأقاموا الإصلاح مكان الإفساد ، وكما قلنا وكررنا الإشارة إلى الموصوفين بيان أن العلة هي الوصف ، فقبول التوبة سببه التوبة النصوح ، والعمل على نقيض المعصية وما ترتب عليها ، "وأتوب عليهم"معناها أرجع عليهم بالقبول والجزاء ، فكما أنهم رجعوا إلي من تيه المعصية أرجع بقبول التوبة وغفران الذنوب ، ثم قال عز من قائل:{ وأنا التواب الرحيم} أي كثير قبول التوبة لأني رحيم بعبادي ، وإن كان الناس لا يذنبون أتيت بمن يذنب لأقبل توبته كما ورد في معنى الأثر{[133]} .
وإن هاتين الآيتين تدلان على وجوب بيان الهادي إلى الرشاد ، كما ورد في الأثر ، وإن تبليغ العلم يجب أن يكون على علم بسياسة البيان بأن يبين للناس ما يطيقون ، ويتدرج من اليسير ، حتى يكون العسير سهلا يسيرا ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:( حدث الناس بما يفهمون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! ){[134]}
ويجب بيان الحق الذي لا زيغ فيه ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم:( لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها ، فتظلموها ){[135]} وقال عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى:( لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير ){[136]} . وفق الله العلماء للنطق بالحق وألا يفتحوا باب التأويل لذوي السلطان حتى لا يضعوا الدر في أعناق الخنازير .