وأما لعن اللاعنين الآتي ذكرهم في الآية الآتية{ إلا الذين تابوا} عن كتمان{ وأصلحوا} عملهم بالأخذ بتلك البينات عن النبي ودينه والهدى الذي جاء به{ وبينوا} ما كانوا يكتمون أو بينوا إصلاحهم ، وجاهروا بعملهم الصالح وأظهروه للناس ، فإن بعض الناس يعرف الحق ويعمل به ولكنه يكتم عمله ويسره موافقة للناس فيما هم فيه لئلا يعيبوه ، وهذا ضرب من الشرك الخفي وإيثار الخلق على الحق ، لذلك اشترط في توبتهم إظهار إصلاحهم والمجاهرة بأعمالهم ليكونوا حجة على المنكرين ، وقدوة صالحة لضعفاء التائبين .
{ فأولئك أتوب عليهم} أي أرجع وأعود عليهم بالرحمة والرأفة ، بعد الحرمان المعبر عنه باللعنة .قال الأستاذ:وهذا من ألطف أنواع التأديب فإنه لم يذكر أنه يقبل توبتهم كما هو الواقع بل أسند إلى ذاته العلية فعل التوبة الذي أسنده إليهم ، وزاد على ذلك من تأنيسهم وترغيبهم أن قال:
{ وأنا التواب الرحيم} يصف نفسه سبحانه بكثرة الرجوع والتوبة ، للإيذان بالتكرار ، كلما أذنب العبد وتاب ، حتى لا ييئس من رحمة ربه إذا هو عاد إلى ذنبه .فأي ترغيب في ذلك أبلغ من هذا وأشد تأثيرا منه لمن يشعر ويعقل ؟
ثم إن العبرة في الآية هي أن حكمها عام وإن كان سببها خاصا ، فكل من يكتم آيات الله وهدايته عن الناس فهو مستحق لهذه اللعنة .ولما كان هذا الوعيد وأشباهه حجة على الذين لبسوا الدين من المسلمين وانتحلوا الرئاسة لأنفسهم بعلمه ، حاولوا التفصي منه فقال بعضهم:إن الكتمان لا يتحقق إلا إذا سئل العالم عن حكم الله تعالى فكتمه ، وأخذوا من هذا التأويل قاعدة هي أن العلماء لا يجب عليهم نشر ما أنزل الله تعالى ودعوة الناس إليه وبيانه لهم ، وإنما يجب على العالم أن يجيب إذا سئل عما يعلمه ، وزاد بعضهم إذا لم يكن هناك عالم غيره وإلا كان له أن يحيل على غيره .وهذه القاعدة مسلمة عند أكثر المنتسبين إلى العلم اليوم وقبل اليوم بقرون ، وقد ردها أهل العلم الصحيح فقالوا:إن القرآن الكريم لم يكتف بالوعيد على الكتمان ، بل أمر ببيان هداه للناس ، وبالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأوعد من يترك هذه الفضيلة وذكر لهم العبر فيما حكاه عن الذين قصروا فيها من قبل كقوله تعالى:{ وإذ أخد الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} ( آل عمران:187 ) الخ وقوله:{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير}إلى قوله في المتفرقين عن الحق{ وأولئك لهم عذاب عظيم} ( آل عمران:104 ، 105 ) وقوله:{ لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى وابن مريم}إلى قوله في عصيانهم الذي هو سبب لعنتهم{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} ( المائدة:78 ، 79 ) الخ .فأخبر تعالى أنه لعن الأمة كلها لتركهم التناهي عن المنكر .نعم إن هذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولكن لا يكفي في كل قطر واحد كما قال بعض الفقهاء ، بل لا بد أن تقوم به أمة من الناس كما قال الله تعالى لتكون لهم قوة ولنهيهم وأمرهم تأثير .وسيأتي تفصيل هذا في تفسير{ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف} ( آل عمران:104 ) الخ .أقول:ما ورد من تدافع علماء السلف في الفتوى فإنما هو في الوقائع العملية الاجتهادية التي تعرض للناس ، لا في الدعوة إلى مقاصد الدين الثابتة بالنصوص وسياجها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وذهب بعض المؤولين مذهبا آخر هو أن هذا الوعيد مخصوص بالكافرين فترك المؤمن فريضة من الفرائض كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يستحق به وعيد الكافرين فيلحقه بالكفار .وهذا كلام قد ألفته الأسماع ، وأخذ بالتسليم واستعمل في الإفحام والإقناع ، فإن الذي يسمعه على علاته يرى نفسه ملزما برمي تاركي الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر بالكفر ، وذلك مخالف للقواعد التي وضعوها للعقائد فلا يستطيع أن يقول ذلك .ولكنه إذا عرض على الله في الآخرة وعلى كتابه في الدنيا يظهر أنه لا قيمة له ، وإذا بحثت فيه يظهر لك أن الذي يرى حرمات لله تنتهك أما عينيه ، ودين الله يداس جهارا بين يديه ، ويرى البدع تمحو السنن ، والضلال يغشى الهدى ، ولا ينبض له عرق ولا ينفعل له وجدان ، ولا يندفع لنصرته بيد ولا بلسان ، هو هذا الذي إذا قيل له إن فلانا يريد أن يصادرك في شيء من رزقك ( كالجارية مثلا ) أو يحاول أن يتقدم عليك عند الأمر والحكام ، تجيش في صدره المراجل ، ويضطرب باله ويتألم قلبه ، وربما تجافى جنبه مضجعه ، وهجر الرقاد عينيه ، ثم إنه يجد ويجتهد ويعمل الفكر في استنباط الحيل وإحكام التدبير لمدافعة ذلك الخصم أو الإيقاع به ، فهل يكون لدين الله تعالى في نفسه مثل هذا قيمته ؟ وهل يصدق أن الإيمان قد تمكن من قلبه ، والبرهان عليه قد حكم عقله ، والإذعان إليه قد ثلج صدره ؟ .
يسهل على من نظر في بعض كتب العقائد التي بنيت على أساس الجدل أن يجادل نفسه ويغشها بما يسليها به من الأماني التي يسميها الإيمان ، ولكنه لو حاسبها فناقشها الحساب ورجع إلى عقله ووجدانه لعلم أنه اتخذ إلهه هواه ، وأنه يعبد شهواته من دون الله ، وأن صفات المؤمنين التي سردها الكتاب سردا ، وأحصاها عدا ، وأظهرها بدل المال والنفس في سبيل الله ونشر الدعوة وتأييد الحقكلها بريئة منه ، وأن صفات المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كلهم راسخة فيه .فليحاسب امرؤ نفسه قبل أن يحاسب ، وليتب إلى الله حلول الأجل لعله يتوب عليه وهو التواب الرحيم .