)لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ( البقرة:236 )
التفسير:
قوله تعالى:{لا جناح عليكم} أي لا إثم عليكم ؛{إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن}: اختلف أهل الإعراب في إعراب:{ما}؛فقال بعضهم: إن{ما} مصدرية ظرفية ؛أي مدة دوام عدم مسكهم لهن ؛وقال بعضهم: إن{ما} شرطية ؛فهو من باب دخول الشرط على الشرط ؛أي لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إن لم تمسوهن ؛وهذا يأتي في اللغة العربية كثيراً - أي كون الشرط الثاني شرطاً في الأول ؛ومنها قوله تعالى:{فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين} [ الواقعة: 86 ،87] فهنا شرط في شرط ؛ومنه قول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تُذعَروا تجدوا منا معاقلَ عزّ زانها كرمُ فيكون الثاني شرطاً في الأول ؛وكل شرط دخل على شرط فالسابق الثاني ؛فهنا نقول: إن{ما} شرطية ؛وأن تقدير الآية: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إن لم تمسوهن ؛فإذا طلقها بدون مس فلا جناح عليه ؛والمعنى واحد ؛ولكن الاختلاف في الإعراب .
وقوله تعالى:{تمسوهن} فيها قراءة ثانية: «تُماسوهن »؛وكلاهما بمعنًى واحد ؛والمراد به الجماع ؛لكن جرت عادة العرب - والقرآن بلسان عربي مبين - أن يُكَنوا عما يستحيا من ذكره صريحاً بما يدل عليه ؛ولكل من القراءتين وجه ؛فعلى قراءة: «تماسوهن » يكون المسيس من الجانبين ؛فكل من الزوج ،والزوجة يمس الآخر ؛ومثله قوله تعالى:{فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} [ المجادلة: 3]؛وأما على قراءة حذف الألف - الذي يفيد وقوع الفعل من جانب واحد - فهو أيضاً واقع ؛لأن حقيقة الفاعل هو الرجل ؛فهو ماسّ ؛ومنها قوله تعالى في مريم:{ولم يمسسني بشر} [ آل عمران: 47]؛فجعل المسّ من جانب واحد - وهو الرجل- .
قوله تعالى:{أو تفرضوا لهن فريضة} أي تجمعوا بين الأمرين: بين ألا تفرضوا لهن فريضة ،وبين ألا تمسوهن ؛فلا جناح عليكم إذا طلقتم المرأة بعد العقد بدون مسيس ،وبدون تسمية مهر ؛و{أو} هنا على القول الراجح حرف عطف على{تمسوهن} .
قوله تعالى:{ومتعوهن}: قال بعض المفسرين: إن هذه الجملة معطوفة على جملة مقدرة ؛والتقدير: فطلقوهن ،ومتعوهن ؛وأن تقدير: «فطلقوهن » مستفاد من قوله تعالى:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء}؛لأن معنى ذلك: أننا قد أبحنا لكم طلاق النساء ،فطلقوهن ؛فيكون المراد بالأمر المقدر - كما قالوا - الإباحة ؛والمراد بالأمر المذكور الوجوب ؛وقال بعض المعربين: لا حاجة إلى التقدير ؛لأن «فطلقوهن » المراد به الإباحة مفهوم من قوله تعالى:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء}؛وما دام المعنى يفهم بدون تقدير فإنه لا يجوز التقدير ؛لأن التقدير نوع من التأويل ؛ولأن الأصل تمام الكلام ،وعدم احتياجه إلى تقدير ؛وهذا القول أرجح ؛وعلى هذا فقوله تعالى:{ومتعوهن} يعني إذا طلقتموهن ؛وهذا مستفاد من قوله تعالى:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء}؛و{متعوهن} معناها أن يعطيها ما فيه المتعة والبلاغ ،من زاد ،أو لباس ،أو غير ذلك ،مما تقتضيه الحال والعرف .
قوله تعالى:{على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}: في{قدره} قراءتان{قدَره} بفتح الدال ؛و{قدْره} بسكونها ؛فعلى القراءة الأولى يكون المعنى ما يقدِر عليه ؛وعلى الثانية يكون المعنى بقَدْره - أي بقدر سعته - ؛و{الموسع} هو الغني الكثير المال ؛و{المقتر} هو الفقير الذي ليس عنده شيء ؛وقوله تعالى:{على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} ،أي على الغني ما يناسب حاله ؛وعلى الفقير ما يناسب حاله ؛والجملة هذه قيل: إنها استئنافية لا محل لها من الإعراب تُبين مقدار الواجب الذي أوجبه الله عزّ وجلّ في قوله تعالى:{ومتعوهن}؛وقيل: إنها في موضع نصب على الحال من الواو في{متعوهن}؛يعني متعوهن حال كونكم موسرين ،أو معسرين - على الموسر قدره ،وعلى المقتر قدره - .
قوله تعالى:{متاعاً} يحتمل أن يكون اسم مصدر - أي مفعولاً مطلقاً عامله{متعوهن} يعني تمتيعاً{بالمعروف}؛ف «متاع » هنا بمعنى تمتيع ،مثل «كلام » بمعنى تكليم ،و«سلام » بمعنى تسليم ،وما أشبهها ؛ويحتمل أن يكون حالاً ؛أي حال كون القدَر - أو القدْر - متاعاً{بالمعروف}؛أي بما يقتضيه العرف ؛والباء هنا للمصاحبة .
قوله تعالى:{حقاً} منصوبة على أنه مصدر لفعل محذوف يعني: أحق ذلك حقاً ؛و «الحق » هو الشيء الثابت اللازم ؛و{على المحسنين} أي على فاعلي الإحسان ؛و «المحسن » اسم فاعل من: أحسَنَ - أي قام بالإحسان ،وعمل به - ؛و «الإحسان » هنا ما كان موافقاً للشرع ؛فإذا قرن ب«العدل » صار المراد ب«الإحسان » الفضل الزائد على العدل ،كما في قوله تعالى:{إن الله يأمر بالعدل والإحسان} [ النحل: 90]؛ف«الإحسان » تارة يراد به موافقة الشرع - ولو كان شيئاً واجباً - ؛وتارة يراد به ما زاد على الواجب ؛وهذا إذا قُرن ب«العدل » ،كما سبق .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: جواز طلاق الرجل امرأته قبل أن يمسها ؛لقوله تعالى:{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن}؛وربما يشعر قوله تعالى:{لا جناح} أن الأولى عدم ذلك ؛لأن طلاقه إياها قبل أن يمسها وقد خطبها ،وقدم إليها الصداق فيه شيء على المرأة ،وغضاضة ،وإن كان الإنسان قد يتأمل في أمره ،وتضطره الأمور إلى الطلاق فإنه لا ينبغي أن يكون متسرعاً متعجلاً .
2 - ومنها: إطلاق المس على الجماع ؛لقوله تعالى:{ما لم تمسوهن} .
3 - ومنها: أنه يجوز للإنسان أن يتزوج المرأة بلا تسمية مهر ؛لقوله تعالى:{أو تفرضوا} يعني: ما لم تفرضوا لهن فريضة ؛وقد اختلف العلماء فيما إذا تزوج المرأة ،وشرط ألا مهر لها ؛فمنهم من يرى أن النكاح غير صحيح - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ؛وهو الراجح ؛لأن الله اشترط للحل المال ؛قال تعالى:{وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم} [ النساء: 24]؛ولأن النكاح إذا شرط فيه عدم المهر صار بمعنى الهبة ؛والنكاح بالهبة خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛والحال لا تخلو من ثلاثة أمور: إما أن يشترط المهر ويعيَّن ؛وإما أن يسكت عنه ؛وإما أن يشترط عدمه ؛ففي الحال الأولى يكون النكاح صحيحاً ،ولا نزاع فيه ؛وفي الثانية النكاح صحيح ،ولها مهر المثل ؛وفي الثالثة موضع خلاف بين أهل العلم ؛وسبق بيان الراجح .
4 - ومن فوائد الآية: وجوب المتعة على من طلق قبل الدخول ،ولم يسم لها مهراً ؛لقوله تعالى:{ومتعوهن} .
5 - ومنها: أن ظاهر الآية الكريمة أنه إذا خلا بها ،ولم يمسها لم يكن عليه إلا المتعة ؛لكن الصحابة ألحقوا الخلوة بها بالمسيس في وجوب العدة ؛وقياس ذلك وجوب مهر المثل إذا خلا بها ،ولم يسم لها صداقاً .
6 - ومنها: أن العبرة في المتعة حالُ الزوج: إن كان موسراً فعليه قدره ؛وإن كان معسراً فعليه قدره ؛لقوله تعالى:{على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} .
7 - ومنها: امتناع التكليف بما لا يطاق ؛لقوله تعالى:{على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}؛وهذه القاعدة دل عليها القرآن في عدة مواضع ؛منها قوله تعالى:{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [ البقرة: 286] .
8 - ومنها: مراعاة الأحوال في الأحكام ؛فيثبت في كل حال ما يناسبها ؛لقوله تعالى:{على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} .
9 - ومنها: أن للعرف اعتباراً شرعياً ؛لقوله تعالى:{متاعاً بالمعروف} .
10 - ومنها: أن الحق إما أن يكون في الأخبار ،أو يكون في الأحكام ؛فإن كان في الأخبار فهو الصدق ؛وإن كان في الأحكام فهو العدل ؛وقد يجمع بين العدل وبين الصدق ،فيحمل الصدق على الخبر ؛والعدل على الأحكام ،مثل قوله تعالى:{وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلًا} [ الأنعام: 115] .