التّفسير
كيفيّة أداء المهر:
في هاتين الآيتين نلاحظ أحكام أخرى للطّلاق أستمراراً للأبحاث السّابقة .
تقول الآية في البداية ( لا جناح عليكم إن طلّقتم النساء ما لم تمسّوهنّ{[383]} أو
تفرضوا لهنّ فريضة ) وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسيّة وقبل تعيين المهر ،وهذا في صورة ما إذا علم الرّجل أو كلا الزّوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان استمرار الحياة الزّوجيّة هذه ،فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذّات ،لأنّ الطّلاق في المراحل اللاّحقة سيكون أصعب .
وعلى كلّ حال فهذا التعبير في الآية جوابٌ على من يتصوّر أنّ الطّلاق قبل المواقعة أو قبل تعيين المهر لا يقع صحيحاً ،فالقرآن يقول أنّ هذا الطّلاق صحيح ولا إثم عليه ( وقد يمنع من كثير من المفاسد ) .
وذهب البعض أن ( جناح ) في هذه الآية بمعنى ( المهر ) الّذي يثقل على الزّوج ،يعني أنّ الرّجل حين الطّلاق وقبل المقاربة الزوجيّة وتعيين المهر ليس مكلّفاً بدفع أي شيء بعنوان المهر إلى المرأة ،وبالرّغم من أنّ بعض المفسّرين{[384]} أورد كلاماً طويلاً حول هذا التفسير ،ولكن استعمال كلمة «جناح » بمعنى المهر يعتبر غريباً وغير مأنوس .
واحتمل آخرون أنّ معنى الجملة أعلاه هو جواز طلاق المرأة قبل المقاربة الجنسيّة في جميع الأحوال ( سواء كانت في العادة الشهريّة أو لم تكن ) والحال أنّ الطّلاق بعد المواقعة الجنسيّة يجب أن يكون في زمان الطّهر الّذي لم يواقعها فيه حتماً{[385]} ،ولكن هذا التفسير بعيد جدّاً لأنّه لا ينسجم مع جملة ( أو تفرضوا لهنّ فريضة ) .
ثمّ تبيّن الآية حكماً آخراً في هذا المجال وتقول: ( ومتّعوهنّ ) أي يجب أن تمنح المرأة هديّة تناسب شؤونها فيما لو جرى الطّلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر ،ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الإعتبار قدرة الزّوج الماليّة في هذه الهديّة ،ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول ( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقّاً على المحسنين ) .
( الموسع ) بمعنى المقتدر والثّري و ( المقتر ) بمعنى الفقير ( من مادّة قتر وكذلك وردت بمعنى البخل أيضاً ) كقوله تعالى ( وكان الإنسان قتورا ){[386]} .
وجملة ( متاعاً بالمعروف ) يمكن أن تشير إلى جميع ما ذكرناه ،أي أنّ الهديّة لابدّ أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل .
ومناسبة لحال المُهدي والمُهدى إليه .
ولمّا كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الانتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعُقدَ نفسيّة بسبب فسخ عقد الزّواج ،فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان ( حقّاً على المحسنين ){[387]} أي أن يكون ممزوجاً بروح الإحسان واللّطف ،ولا حاجة إلى القول بأنّ تعبير ( المحسنين ) لم يأت ليشير إلى أنّ الحكم المذكور ليس إلزاميّاً ،بل جاء لإثارة المشاعر والعواطف الخيّرة في الناس للقيام بهذا الواجب الإلزامي .
الملاحظة الأخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية الّتي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم ( متاع ) فالمتاع في اللّغة هو كلّ ما يستمتع به المرء وينتفع به ،ويطلق غالباً على غير النقود ،لأنّ الأموال لايمكن التمتّع بها مباشرةً ،بل لابدّ أوّلاً من تبديلها إلى متاع ،ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع .
ولهذا العمل أثر نفسي خاص ،فكثيراً ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المُهدى إليهم لا يبلغه أبداً أثر الهديّة النقديّة ،لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن الأئمّة الأطهار ( عليهم السلام )تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعيّة .
كذلك يتّضح من هذه الآية أنّ تعيين المهر قبل إجراء العقد في النكاح الدائم ليس ضروريّاً إذ يمكن للطرفين أن يتّفقا على ذلك بعد{[388]} إذ كما تفيد الآية أيضاً أنّه إذا حصل الطّلاق قبل تعيين المهر وقبل المضاجعة فلا يجب المهر ،بل يُستعاض عنه بالهديّة المذكورة .
ويجب الالتفات إلى أنّ الزّمان والمكان مؤثّران في مقدار الهديّة المناسبة .