)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( البقرة:240 )
التفسير:
قوله تعالى:{وصية} فيها قراءتان: النصب ،والرفع ؛وقوله تعالى:{الذين} مبتدأ ؛و{وصية} بالرفع مبتدأ خبره محذوف ؛والتقدير: عليهم وصية ؛والجملة: خبر{الذين}؛أما على قراءة النصب فإن خبر{الذين} جملة فعلية محذوفة ؛والتقدير: يوصُون وصيةً ؛أو نوصيهم وصية - على خلاف في ذلك: هل هي وصية من الله ؛أو منهم ؛فإن كانت من الله عزّ وجلّ فالتقدير: نوصيهم وصية ؛وإن كانت منهم فالتقدير: يوصُون وصية ؛والجملة المحذوفة خبر{الذين}؛والرابط الضمير في الجملة المحذوفة سواء قلنا: «عليهم وصية » ؛أو قلنا: «نوصيهم وصية » ،أو «يوصُون وصية » .
قوله تعالى:{متاعاً إلى الحول}؛{متاعاً} مصدر لفعل محذوف ؛والتقدير: يمتعونهن متاعاً إلى الحول ؛و{غير إخراج} إما صفة لمصدر محذوف ؛أي متاعاً غير إخراج ؛أي متعة غير مخرجات فيها ؛أو أنها حال من الفاعل في الفعل المحذوف .
قوله تعالى:{فلا جناح عليكم}؛هذه «لا » النافية للجنس ،واسمها ،وخبرها ؛وقوله تعالى:{من معروف} متعلق ب{فعلْن}؛وباقي الآية إعرابها ظاهر ،وواضح .
قوله تعالى:{والذين يتوفون منكم} أي يُقبَضون ؛والمراد: الموت ؛و{منكم} الخطاب لعموم الأمة ؛وليس خاصاً بالصحابة رضي الله عنهم ؛لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة ؛فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة ؛إلا إذا دل دليل على الخصوصية ،كما في قوله تعالى:{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى} [ الحديد: 10] .
قوله تعالى:{ويذرون} أي يتركون ؛وهي معطوفة على قوله تعالى:{يتوفون}؛و{أزواجاً} أي زوجات لهم .
قوله تعالى:{وصية لأزواجهم} أي عهداً لأزواجهم ؛ولا تكون الوصية إلا في الأمر الذي له شأن ،وبه اهتمام ؛{إلى الحول} أي إلى تمام الحول من موت الزوج ؛و{غير إخراج} أي من الورثة الذين يرثون المال بعد الزوج ؛ومنه البيت الذي تسكن فيه الزوجة .
قوله تعالى:{فإن خرجن} أي خرج الزوجات من البيت قبل الحول ؛{فلا جناح عليكم} أي لا إثم عليكم{فيما فعلن في أنفسهن من معروف} أي مما يعرفه الشرع ،والعرف ،ولا ينكره .
قوله تعالى:{والله عزيز حكيم} أي ذو عزة ،وحُكم ،وحِكمة .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أن الزوجة تبقى زوجيتها حتى بعد الموت ؛لقوله تعالى:{ويذرون أزواجاً}؛ولا يقول قائل: إن المراد باعتبار ما كان ؛لأن هذا خلاف الأصل .
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر كذلك فإنها لا تحل لأحد بعده ؟
قلنا: هي مقيدة بمدة العدة ؛ويدل على ذلك أن المرأة إذا مات زوجها جاز أن تغسله ؛ولو كانت أحكام الزوجية منقطعة ما جاز لها أن تغسِّل زوجها .
2 - ومنها: أنه يشرع للزوج أن يوصي لزوجته أن تبقى في بيته ،وينفق عليها من تركته لمدة حول كامل ؛هذا ما تفيده الآية ؛فهل هذا الحكم منسوخ ،أو محكم ؟على قولين للعلماء ؛أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى:{والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} [ البقرة: 234]؛ويؤيده ما في صحيح البخاري حينما سئل عثمان رضي الله عنه: لماذا أبقيت هذه الآية وهي منسوخة ؛ولماذا وضعتها بعد الآية الناسخة - وكان الأولى أن تكون المنسوخة قبل الآية الناسخة لمراعاة الترتيب ؟فأجاب عثمان رضي الله عنه بأنه لا يغير شيئاً من مكانه{[426]} ؛وذلك لأن الترتيب بين الآيات توقيفي ؛فهذه الآية توفي رسول الله ( ص ) وهي تتلى في القرآن ،وفي مكانها ؛ولا يمكن أن تغير ؛وعلى هذا فتكون هذه الآية منسوخة بالآية السابقة بالنسبة للعدة ؛وأما بالنسبة لما يوصي به الزوج من المال فهو منسوخ بآية المواريث - وهي قوله تعالى:{ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم} [ النساء: 12] ،وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ؛فلا وصية لوارث »{[427]} .
والقول الثاني: أن الآية محكمة ؛فتحمل على معنًى لا يعارض الآية الأخرى ؛فيقال: إن الآية الأخرى يخاطَب بها الزوجة: تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشراً ؛والآية الثانية يخاطَب بها الزوج ليوصي لزوجته بما ذُكر .
3 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ ذو رحمة واسعة حتى أوصى الزوج بأن يوصي لزوجته مع أن الزوج قد جعل الله فيه رحمة لزوجته حين قال لله تعالى:{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [ الروم: 21]؛ورحمة الله عزّ وجلّ لهذه الزوجة أعظم من رحمة الزوج لها .
4 - ومنها: أن المرأة يحل لها إذا أوصى زوجها أن تبقى في البيت أن تخرج ،ولا تنفذ وصيته ؛لقوله تعالى:{فإن خرجن فلا جناح عليكم}؛لأن هذا شيء يتعلق بها ،وليس لزوجها مصلحة فيه .
ويتفرع عليه لو أوصى الزوج الزوجة ألا تتزوج من بعده لا يلزمها ؛لأنه إذا كان لا يلزمها أن تبقى في البيت مدة الحول فلأن لا يلزمها أن تبقى غير متزوجة من باب أولى .
وكذلك يؤخذ منه قياساً كل من أوصى شخصاً بأمر يتعلق بالشخص الموصى له فإن الحق له في تنفيذ الوصية ،وعدم تنفيذها .
5 - ومن فوائد الآية: أن المسؤولين عن النساء هم الرجال ؛لقوله تعالى:{فلا جناح عليكم} .
6 - ومنها: أن على الرجال الإثم فيما إذا خرجت المرأة عن المعروف شرعاً ؛لقوله تعالى:{فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} .
ويتفرع على هذا أن كل مسؤول عن شخص إذا تمكن من منعه عن المنكر فإنه يمنعه ؛ولا يعارض هذا قوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} [ الأنعام: 164]؛لأن الإنسان ما دام مسؤولاً فإنه إذا فرط في مسؤوليته كان وازراً ،ووزره على نفسه .
7 - ومن فوائد الآية: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج عن المعروف في جميع أحوالها ؛و «المعروف » هو ما أقره الشرع والعرف جميعاً ؛فلو خرجت في لباسها ،أو مشيتها ،أو صوتها ،عن المعروف شرعاً فهي آثمة ؛وعلينا أن نردعها عن الخروج على هذا الوجه .
8 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله ؛وهما «العزيز » ،و «الحكيم »؛وإثبات ما تضمناه من صفة سواء كان ذلك عن طريق اللزوم ،أو المطابقة ،أو التضمن ؛وهي العزة ،والحكمة ،والحُكم ؛وقد سبق تفسير ذلك .
9 - ومنها: إثبات العزة ،والحكمة على سبيل الإطلاق ،لأن الله سبحانه وتعالى أطلق: قال:{عزيز حكيم}؛فيكون عزيزاً في كل حال ؛وحكيماً حاكماً في كل حال .