[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم ( 240 ) وللمطلقات متاع بالمعروف حق على المتقين ( 241 ) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتقون ( 242 )] .
توسطت آيات الصلاة بين الآيات التي تبين ما للمعتدات وما عليهن ، وذلك ليتوسط التهذيب النفسي التعامل الاجتماعي ، وليستبين المؤمن أن التقوى أساس الصلاة التي تربط آحاد الأسرة ، وأن التقوى لازمة لتكون روح الاتصال ، وميزان الاعتدال عند قيام الحياة الزوجية وعند انقطاعها .
و قد بينت الآيات السابقة ما للمطلقة من حقوق أوجبها العقد نفسه ، فنصف المهر أو المتعة عند الطلاق قبل المسيس وقبل تسمية المهر أمران أوجبهما العقد نفسه ؛ لأن العقد الصحيح يوجب مهرا على أي صورة كان المهر .
و هاتان الآيتان اللتان سنتكلم في معناهما تبينان ما يجب ليكون الانتهاء من غير قطيعة ، ولتكون المودة موصولة بعد انتهاء عقد النكاح ، والوجوب فيهما لا يشتق من ذات العقد ، ولكنه يترتب على انتهاء العقد ، وتوجبه الأخلاق الكريمة .
و الآية الأولى تبين ذلك النوع من الحقوق الذي يجب للمتوفى عنها زوجها ، والثانية تبين ما يجب للمطلقة على أنه أثر للطلاق نفسه ، لا على أنه من مقتضى عقد الزواج ، كنصف المهر ، أو المتعة السابقة .
[ و الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج] والمعنى الجملي للآية الكريمة – فيما يظهر ويبدو بادي الرأي – أن الذين يتوفون ويذرون أي يتركون أزواجا ، والمراد الزوجات ، لأن كلمة الزوج تطلق على الذكر والأنثى ، فرض الله وصية لهؤلاء الزوجات متاعا أي انتفاعا مستمرا إلى نهاية الحول ، أي حتى يحول الزمن ويجيء الوقت الذي مات زوجها فيه [ غير إخراج] أي ينتفعن بالإقامة في مسكنهن الذي كن يسكن فيه في حياة أزواجهن من غير إخراج منه ، ويصح أن يقال غير مخرجات منه ، فيكون المصدر على معنى اسم المفعول ، والمؤدى واحد .
و هنا بعض مباحث لفظية نشير إليها:
أولها:كلمة "وصية"فيها قراءتان مشهورتان ، إحداهما بالفتح ، والثانية بالضم ، وعلى قراءة الفتح يكون تقدير القول:كتب الله وصية متاعا إلى الحول غير إخراج . وعلى قراءة الضم يكون تقدير القول:عليهم وصية لأزواجهم حال كون هذه الوصية متاعا للحول غير إخراج ، أو لأجل الانتفاع إلى الحول غير إخراج .
ثانيها:إنه عبر بحول بدل سنة ، للدلالة على التحول حتى تعود الأيام التي كانت فيها الوفاة ، ولو قيل إلى السنة مثلا لاحتمل أن ينتهي الانتفاع بالسكن بانتهاء السنة التي حصلت فيها الوفاة ، ولو لم يحل الحول ، فكان التعبير السامي بالحول نصا في أن يمر عام كامل من وقت الوفاة .
ثالثها:قوله "غير إخراج "فالمعنى:غير مخرجات ، أو يبقين في مسكنهن من غير إخراج من ورثة المتوفى لهن ، والتعبير بالمصدر في هذا المقام هو الأصل ، وهو المغزى والمرمى ، لأن الوصية هي عدم الإخراج ، فالوصية ألا يخرجن ، ولذلك كان التعبير بالمصدر هو الأصل ، وقوله "غير إخراج "صفة لمتاعا ، ومتاعا بدل أو عطف بيان لكلمة "وصية "على قراءة النصب ، وحال على قراءة الرفع ، أو تمييز .
رابعها:إن الله سبحانه وتعالى عبر عن حق الانتفاع بالسكنى سنة بعد الوفاة بأنه وصية ، وبأنه متاع ، أما التعبير بأنه وصية ، فلأنه حق يثبت بعد وفاة الزوج في ماله لا على أنه ميراث ، بل على أنه وصية أوجبها الله سبحانه وتعالى بموجب الفرقة بالوفاة ، فهو يثبت من غير أن يكون له أثر في قدر ميراثها في تركة زوجها ، وأما التعبير عنه بمتاع ، فلأنه بمقابل ما للمطلقات من متاع في الآية الكريمة التالية [ و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين 241] .
[ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف] بقاء المتوفى عنها زوجها سنة في مسكن الزوجية من غير نظر إلى مقدار ميراثها ومن غير تأثير في مقداره أيا كان ذلك المقدار هو حق للزوجة ، وليس بواجب عليها ، وكان حقا لها من قبيل أنه متصل بحقوق الميت في تركته ، فكأن حق الزوجة من المقام في بيت الزوجية من المقام سنة بعد الوفاة هو من قبل حقوق المتوفى في ماله كالديون .
و لما كان ذلك حقا لها ، وهو واجب على الورثة أن يوفروه ، فليس واجبا عليها ، فلها أن تبقى ولها أن تخرج ، ولذا قال تعالى:[ فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف] أي فإن خرجن مختارات راضيات راغبات غير مخرجات ، فلا إثمعليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف ، أي فيما فعلن من أمور تتعلق بأنفسهن ، أي أن البقاء في مسكن الزوجية وعدم البقاء أمر يتعلق بأنفسهن وهن أدرى بمصلحة أنفسهن ،في ذلك ، فإن وجدت مصلحتها وراحتها واطمئنانها وقرارها في أن تنتفع بحق البقاء سنة كاملة بعد وفاة زوجها فإنها تبقى ، ويجب أن تمكن من ذلك ، ولا يخرجها أحد ، وإن رأت أن مصلحتها في أن تأوي إلى بيت ذويها ، أو عرض لها أن تتزوج بعد انتهاء عدتها وهي أربعة أشهر وعشرة أيام ، فإن لها ذلك .
و قد قيد نفي الإثم عن الجماعة فيما يفعلن في أنفسهن بكلمة ( من معروف ) ، وهو الأمر الذي تقره الشرائع ، و تعرفه العقول ولا يستنكر من أحد ، قيد نفي الإثم بذلك ، للإشارة إلى أن الجماعة الإسلامية مسئولة عما يقع من آحادها مخالفا للمعروف في الشرع والعقل ، فمن يأثم فعلى الجماعة أن تعمل على إصلاحه ، ولا ينتفي عنها الإثم حتى تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وفسر بعض العلماء المعروف بأنه الزواج بعد انتهاء العدة ، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام ، والحق أن المعروف أعم من ذلك .
[ و الله عزيز حكيم] ذيل الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بهذا للإشارة إلى ثلاثة أمور:
أولها:أن هذه الأمور التي شرعها الله في الأسرة إنما هي بحكمته ، وفيها صلاح المجتمع ، وإذا كان يسوغ أن تجبر المرأة على الخروج من منزل الزوجية بمجرد وفاة الزوج ، فإن ذلك قد يؤدي إلى فساد كبير ، وتهزيع للأخلاق ، ولقد أعطاها الله سبحانه وتعالى ذلك الحق ردءا لهذا الفساد ومنعا له .
و ثانيها:إن الله سبحانه وتعالى غالب على كل شيء ، وله سبحانه وتعالى العزة في السماوات وفي الأرض ، وأن الورثة إن استضعفوا شأن المرأة فمنعوها حقها فالله فوقهم قاهر غالب ، وهو مجازيهم بعملهم ، وهو ناصر الضعيف .
و ثالثها:إشعار النفوس بتذكر الله رب العالمين عندما ينظمون علاقاتهم بعضهم مع بعض ، وخصوصا في شئون الأسرة .
تبين مما سبق أن الآية الكريمة لا صلة لها بمدة العدة بالنسبة للمتوفى عنها زوجها ، لأن هذه الآية الكريمة بألفاظها ومعانيها لا تلزم المرأة بالتربص والامتناع عن الأزواج مدة معينة كقوله تعالى:[ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . . .228] ( البقرة ) وكقوله تعالى:[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . . .234] ( البقرة ) إنما تدل هذه الآية على ما للمتوفى عنها زوجها من حق البقاء في بيت الزوجية سنة بعد موت زوجها ، وأن لها أن تبقى فيه ، وأن تخرج منه على ما تراه مصلحتها ويكون فيه اطمئنانها وقرارها .
و على ذلك لا تكون ثمة معارضة بأي نوع من أنواع المعارضة بين هذه الآية وقوله تعالى في عدة المتوفى عنها زوجها [ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . . .234] ( البقرة ) لأن هذه في بيان العدة ، أما الآية التي نتكلم في معناها ففي بيان حق المرأة ، لا بيان الواجب عليها .
و لكن فرض الكثيرون من المفسرين تعارضا بين الآيتين ، واعتبروا الآية الأولى ناسخة للآية الثانية ، وادعوا أن جمهور السلف على ذلك الرأي ، واعتمدوا في ذلك على روايات رويت عن عثمان بن عفان ، وعبد الله بن عباس وغيرهما .
و قد خالف ذلك شيخ المفسرين ابن جرير الطبري ، فروى عن مجاهد أن هذه الآية – وهي التي نتكلم في معناها – آية محكمة لا نسخ فيها ، فقد قال مجاهد:العدة تثبت أربعة أشهر وعشرا ، ثم جعل الله لهن وصية سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها ، و إن شاءت خرجت ، وهو قوله تعالى:[ غيرإخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم] .
و لقد روى البخاري مثل ذلك عن مجاهد أيضا ، فقد أخرج البخاري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى:[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا] . قال:"كانت هذه العدة تعتدها عند أهلزوجها واجبا ، فأنزل الله تعالى:[ والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهن متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف] قال:جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت .
و بهذا التخريج وذلك السند يثبت أن لا تعارض قط بين الآيتين ، وشرط النسخ التعارض ولم يوجد فلا نسخ ، ولكن الجمهور من الفقهاء يعتمدون في النسخ على قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي البعرة عند رأس الحول "{[343]} ففي هذا الحديث تصريح بأن أربعة أشهر وعشر ليال نسخت وجوب البقاء حولا ، وهذا كلام حق ، وهو لا يخالف الآية التي نتكلم فيها ، لأن الجاهلية كانت تجعل العدة سنة فجعلها الإسلام أربعة أشهر وعشرا ، وهذه الآية لا توجب عدة الجاهلية ، فهي لا تلزم المرأة بالامتناع عن الأزواج سنة كاملة ، ولكنها تعطيها حق البقاء سنة كاملة ، فهي تبين ما لها من حق ، ولا تذكر ما عليها من واجب اكتفاء بما ذكر في آيات العدة التي تعتدها .
و على هذا نقرر أن حكم هذه الآية باق لم ينسخ ، وثابت مقرر بنص القرآن الكريم ، وقد قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد وجه الحكم بعدم النسخ من قبله فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ، فقد جاء فيه ما نصه بعد بيان قول من حكم النسخ:
القول الثاني قول مجاهد:إن الله أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين إحداهما ما تقدم وهو قوله تعالى:[ يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا . . .234] ( البقرة ) والأخرى هذه الآية ، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين ، فنقول إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشرا في تلك الآية المتقدمة ، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها والأخذ من ماله وتركته فعدتها هي الحول ، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى حتى يكون كل واحد منهما معمولا به .
القول الثالث وهو قول أبي مسلم الأصفهاني:إن معنى الآية من يتوفى منكم ويذرون أزواجا ، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول ، فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف ، أي من نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة ، قال:والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولا كاملا ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول ، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب ، وعلى هذا التقدير النسخزائل ، واحتج على قوله بوجوه:
أحدهما:أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان .
و الثاني:أن يكون الناسخ متأخرا عن المنسوخ في النزول ، و إذا كان متأخرا عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخر عنه في التلاوة أيضا ، لأن هذا الترتيب أحسن ، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة فهو وإن كان جائزا في الجملة يعد من سوء الترتيب ، وتنزيه كلام اللهعنه واجب بقدر الإمكان ، ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك في التلاوة كان الأولى ألا يحكم بكونها منسوخة بتلك .
الوجه الثالث:هو أنه ثبت في علم الأصول أنه متى وقع التردد بين النسخ وبين التخصيص كان التخصيص أولى ، وها هنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ ، فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل ، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر ؛ لأنكم تقولون تقدير الآية فعليهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها فليوصوا وصية ، وأنتم تضيفون الحكم إلى الله تعالى ، وأبو مسلم يقول في تقدير الآية:والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم ، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج ، وإذا كان لابد من إضمار فليس إضماركم أولى من إضماره ، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية ، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم ، وإن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل .اه .
هذا كلام الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، وهو يدل على أمرين:
أحدهما:أن رأي أبي مسلم أن الوصية من الأزواج وليست من الشارع ، وهذا الرأي لا جديد فيه إلا جواز مثل هذا النوع من الوصايا ، وأما قول مجاهد فالوصية من الله ، وهي ملزمة للورثة ، وليست ملزمة للزوجة ، و هو الذي نختاره ، ويتفق مع السياق .
الأمر الثاني:أن فخر الدين الرازي يميل ميلا واضحا إلى منع النسخ ، ولذلك نراه يبتدىء موجها الأقوال ، موضحا التوجيه ، ثم ينتهي بعبارات واضحة كل الوضوح في أن التزام النسخ التزام له من غير دليل ؛ وذلك حق لا ريب فيه .