ولأن الصلاة لها تلك المنزلة لم تسقطها رخصة ، ولا تجب على فريق دون فريق ، فلها عموم الوحدانية ، ولها لزوم الشهادتين ، فأكثر العبادات قد تسقط عن فريق دون فريق إلا الصلاة ، فإنه لا رخصة لسقوطها ، ولذا وجبت في حال الأمن والخوف ، وقال تعالى في حال الخوف:
[ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا] هذا بيان ما يجب من الصلاة حال الخوف ، وهي أعم من حال الحرب ، وأخص منها ، فبينهما ما يسميه المناطقة عموم وخصوص من وجه ، فإن حال الخوف قد تكون في حال الحرب ، وقد تكون في غيرها كهجوم وحش مفترس ، وحال الحرب ليست دائما حال خوف ، فقد يكون فيها وقت يأمن على نفسه فيصلي آمنا مؤديا الأركان بالجوارح .
و إيجاب الصلاة في حال الخوف وحال الأمن يدل على أمرين:
أحدهما – أن الصلاة ركن لا يقبل السقوط إلا في حال العجز التام حتى عن الصلاة بالإيماء ، وقد نوهنا إلى ذلك من قبل ، وبينا أنها اختصت من بين الفرائض العملية بذلك .
ثانيهما – أن الصلاة في لب معناها هي اتجاه القلب ، وعمل الحركات مظهر ذلك الاتجاه القلبي ، والنزوع الروحي السامي ، فإذا حالت الأحوال دون القيام ببعض هذه الحركات من ركوع وسجود كاملين أغنت عنهما الإشارات إليهما ، وهو ما يسمى الصلاة بالإيماء ، والمعنى متحقق في الحالين ، ولكن لا ينتقل المصلي من حال كمال الحركات إلى ما دونها إلا عند تعذر الإتيان بها كاملة في نحو خوف أو مرض .
و قد رخص الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في حال الخوف أن يصلوا رجالا ، أي راجلين مشاة على أقدامهم ، أو وقوفا في أماكنهم ، وأن يصلوا ركبانا أي راكبين .
و ركبان جمع لراكب ، وأما رجالا فهي كما يقول الزمخشري:جمع راجل كقيام جمع لقائم ، أو جمع رجل يقال رجل رجل أي راجل ، وتوجيه قول الزمخشري أنه يقال رجل الإنسان يرجل إذا لم يكن معه ما يركبه ومشى على قدميه فهو رجل ورجل بضم الجيم ورجلان ورجيل ورجل بسكون الجيم ، ويجمع في الأحوال كلها على رجال . وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه:( اشتق من الرجل رجل وراجل للماشي بالرجل ، ورجل . . ويقال رجل راجل أي قوي على المشي ، جمعه رجال ) .
و الخلاصة:أن الصلاة كما تؤدى بالحركات كاملة ، تؤدى بالإشارة إليها بما يكون في وسع المكلف القيام به ، وذلك لأن الصلاة كما قلنا ، في لب معناها ، اتجاه قلبي إلى الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء .
و قد يقول قائل:إن الصلاة إذا كان ذلك لب معناها فلماذا كانت تلك الحركات ؟ ألا يغني فيها الاتجاه القلبي ، وحصر الذهن والنفس لله ، وفي ذلك عمران القلب بذكر الله وامتلاء النفس بهيبته ؟ قد يقول قائل ذلك ، وقد قاله بعض المقلدين الفرنجة ، واتبعوا من زعم أن ذلك طريق الإصلاح الخلقي . وقد يكون ذلك القول مجديا لو كان يمكن تحقق معناه من غير تلك الحركات ، ومن غير هذه الأقوال التي تشتمل عليها الصلاة . إن هذه الحركات معين لاستذكار القلب ، وامتلاء الفكر بعظمة الله سبحانه وتعالى ، والأقوال التي تقال في الصلاة هي لهذا الاستحضار ، ف ( الله أكبر ) التي تتكرر عند الانتقال من حال إلى حال هي في معناها لملء النفس بعظمة الله ، والآيات التي تتلى هي حمد لله ، وثناء على الله سبحانه وتعالى، وشعور بالربوبية وسلطان الله سبحانه مالك يوم الدين ، ودعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ، وتجنب طريق الضالين . والحركات هي مظاهر الطاعة والخضوع ، والقيام بحق الربوبية . . وهكذا كل قول وفعل في الصلاة إنما هو لتوجيه القلب نحو الملكوت الأعلى ، و ذكر الله العلي القدير ، اللطيف الخبير .
و لا يمكن استحضار القلب لذكر الله بغيرها ، بل إنها تكون ثمرة ذلك الاستحضار ، فإن القلب إذا شعر بعظمة الله نطق اللسان بها وتطامنت الرأس خضوعا ، وخر الإنسان ساجدا صاغرا لله رب العالمين .
[ فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون] أي إذا زال الخوف ، وأقبل الأمن ، فأقيموا الصلاة مستوفية لكل الأركان ، أي تأتون بحركاتها كاملة ، وذلك في معنى قوله تعالى بعد بيان صلاة الخوف:[ فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا 103] ( النساء ) .
فالذكر المراد به هنا الصلاة الكاملة المستوفية الأركان ، وعبر عنها بالذكر للإشارة إلى أن المغزى فيها هو ذكر الله تعالى ، وإلى أن ذكر الله مطلوب أشد الطلب ، وأن الصلاة بغيره لا تسمى صلاة ولو كانت مستوفية الأركان الظاهرة ، وبهذا يتبين أن هذه الحركات مهما تكن كاملة لا يمكن أن تغني عن استحضار القلب لمعاني العبودية والخضوع الكامل لرب العالمين ، ولذا يقول الصوفية:إن الصلاة بغير هذه المعاني الروحية لا تكون صحيحة مهما تكن كاملة من حيث الأقوال والأفعال .
وقوله تعالى:[ كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون] أشار فيها الزمخشري إلى تفسيرين ، على أن النص الكريم يحتملهما:
أحدهما:أن المعنى أدوا الصلاة كاملة كما علمكم على لسان رسوله الكريم ، وبأفعاله ، بأن تأتوا بالركوع والسجود تامين ، فالكاف معناها المشابهة بين ما يفعلون وما يطلب منهم فعله ، وبين ما علمهم إياه رب العالمين بتبليغ النبي الأمين إذ قال:"صلوا كما رأيتموني أصلي"{[342]} .
و ثانيهما:أن المعنى أدوا الصلاة شاكرين حامدين ذاكرين رب العالمين ، ويكون ذكركم مقابلا بما أنعم الله به عليكم من تعليمكم شريعته التي يكون في إتباعها صلاح حالكم في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا صلاح أنفسكم وأسركم ومجتمعكم ، وفي الآخرة بالزلفى لرب العالمين ، ويكون معنى الكاف على هذا هو المشابهة المقربة بين النعم التي أسبغها عليكم ، والتكليفات العبادية التي كلفكم إياها ، فيكون الشكر بالعبادة مشابها ومماثلا لنعمة التعليم التي علمنا الله إياها بتلك الشريعة المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وهذا معنى قول بعض العلماء:إن الكاف هنا للتعليل ، وذلك مستقيم من حيث المؤدى وإن كانت مع ذلك لم تخرج عن معنى التشبيه والمماثلة .
و لعل التفسير الثاني الذي أشار إليه الزمخشري ووضحناه بعض التوضيح هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة التي تسبق آية الصلاة وتلحقها ، لأن فيها إشارة إلى أن تعليم الله تعالى لنا ما علم من أحكام الشرع الشريف هو في ذاته نعمة تستحق الشكر لله وذكره سبحانه ، فالصلاة وإن كانت باعثة على أحسن التعامل ، هي كذلك شكر للمنعم على ما علم وأنعم وهدى .
و في الآية الكريمة بعض إشارات لفظية نذكرها:ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في حال الخوف:[ فإن خفتم] معبرا سبحانه بإن الدالة على التعليق في موضع الشك أو القلة ، وفي حال الأمن قال:[ فإذا أمنتم] معبرا بإذا الدالة على التحقيق والكثرة ، وفي ذلك إشارة إلى أن حال الأمن هي الكثرة ، وهي الأمر المحقق الثابت ، وأن حال الخوف هي القلة وهي ليست أمرا مؤكدا ثابتا . وفي ذلك بيان لنعم الله على الإنسان أنه وهبه الأمن والدعة والاطمئنان ، وما يكون من اضطراب وجزع وقلق فمن فعل الإنسان . فقد وهب الله الإنسان العقل ، وجعله في أطوار نفسه يألف ويؤلف ، فإذا غلبته شقوته فبدل من الأمن حربا ، ومن السلام خصاما ، فقد تعدى حدود الله وتجاوز فطرته ، والله من ورائهم محيط .