ثم قال تعالى:{ فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} أي فإن خفتم أن تقوموا لله فيها قانتين مجتمعين فيفتنكم الأعداء بهجومهم عليكم ، وإن خفتم أي خطر أو ضرر من قيامكم قانتين فصلوا كيفما تيسر لكم راجلين أو راكبين ، فالرجال جمع راجل وهو الماشي والركبان جمع راكب ، قال الأستاذ الإمام هذا التأكيد للمحافظة وبيان أن الصلاة لا تسقط بحال ، لأن حال الخوف على النفس أو العرض أو المال من مظنة العذر في الترك ، كما يكون السفر عذرا في ترك الصيام ، وكالأعذار الكثيرة لترك صلاة الجمعة ، واستبدال صلاة الظهر بها ، والسبب في عدم سقوط الصلاة عن المكلف بحال أنها عمل قلبي ، وإنما فرضت فيها تلك الأعمال الظاهرة لأنها مساعدة على العمل القلبي المقصود بالذات ، وهو تذكير سلطان الله تعالى المستولي علينا وعلى العالم كله ، ومن شأن الإنسان إذا أراد عملا قلبيا يجتمع فيه الفكر ، ويصح فيه توجه النفس وحضور القلب ، أن يستعين على ذلك ببعض ما يناسبه من قول وعمل .
ولا ريب أن هذه الهيئة التي اختارها الله تعالى للصلاة هي أفضل معين على استحضار سلطانه ، وتذكر كرمه وإحسانه ، فإن قولك"الله أكبر "في فاتحة الصلاة وعند الانتقال فيها من عمل إلى عمل يعطيك من الشعور بكون الله أكبر وأعظم من كل شيء تشغل به نفسك ، وتوجه إليه همك ، ما يغمر روحك ، ويستولي على قلبك وإرادتك ، وفي قراءة الفاتحة من الثناء على الله تعالى وتذكر رحمته وربوبيته ومعاهدته على اختصاصك إياه بالعبادة والاستعانة ، ومن دعائه لأن يهديك صراطه الذي استقام عليه ومن سبقت لهم منه النعمة من عباده الصالحين ما فيها مما تقدم شرحه في تفسيرها ، وكل ما تقرأه من القرآن بعد الفاتحة له في النفس آثار محمودة تختلف باختلاف ما في القرآن من المعارف العالية ، والحكمة البالغة ، والعبر العظيمة ، والهادية القويمة ، وانحناؤك للركوع وللسجود بعد ذلك يقوي في النفس معنى العبودية ، وتذكر عظمة الألوهية ونعم الربوبية ، لما في هذين العملين من علامة الخضوع والخروج عن المألوف ، وما شرع فيهما من تسبيح الله ، وتذكر عظمته وعلوه جل ثناؤه .
فإذا تعذر عليك الإتيان ببعض الأعمال البدنية ، فإن ذلك لا يسقط عنك هذه العبادة القلبية ، التي هي روح الصلاة وغيرها وهي الإقبال على الله تعالى واستحضار سلطانه مع الإشارة إلى تلك الأعمال بقدر الإمكان ، الذي لا يمنع من مدافعة الخوف الطارئ من سبع مفترس ، أو عدو مغتال ، أو لص محتال ، وكيف يسقط طلب الصلاة القلبية في حال الخوف وهو يساعد على الخروج منه ، أو تخفيف وقعه ، فالآية تعلمنا أنه يجب أن لا يذهلنا عن الله تعالى شيء من الأشياء ، ولا يشغلنا عنه شاغل ولا خوف في حال من الأحوال ، ولذلك قال:{ فإن خفتم فرجالا أو ركبنا} أي فصلوا مشاة أو راكبين كيفما اتفق وهذا في حالة الملاحمة في القتال أو مقاومة العدو ودفع الصائل أو الفرار من الأسد ، أي ممارسة ذلك الفعل ، فإن كان الوقت وقت صلاة على المكلف راجلا أو ركبانا لا يمنعه من صلاته الكر والفر ، ولا الطعن والضرب ، ويأتي من أقوال الصلاة بما يأتي من الحضور والذكر ويومئ بالركوع والسجود بقدر الاستطاعة ، ولا يلتزم التوجه إلى القبلة .وأما صلاة الخوف في هذه الحالة كصلاة الجند المعسكر بإزاء العدو جماعة فهي مذكورة في سورة النساء .
{ فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي زال خوفكم واطمأننتم فاذكروا الله لأنه علمكم كيف تعبدونه وتصلون له في حال الخوف ، فيكون ذلك عونا لكم على دفعه أي تذكروا نعمه عليكم بهذا التعليم واشكروه له ، هذا إذا قيل إن الكاف للتعليل ، وإذا قلنا أن الكاف للبدلية فالمعنى فاذكروه على الطريقة التي علمكم إياها من قبل ، أي فصلوا على السنة المعروفة في الأمم بإتمام القيام والاستقبال والركوع والسجود .