{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين 238 فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون 239}
كانت الآيات السابقة أحكاما بعضها في العبادات ، وبعضها في الحدود والمعاملات ، آخرها معاملة الأزواج ، ورأينا من سنة القرآن أن يختم كل حكم أو عدة أحكام بذكر الله تعالى والأمر بتقواه ، والتذكير بعلمه بحال العبد وبما أعد له من الجزاء على عمله ، وفي هذا ما فيه من نفخ روح الدين في الأعمال وإشرابها حقيقة الإخلاص .ولكن هنا التذكير القولي بما يبعث على إقامة تلك الأحكام على وجهها ، قد يغفل المرء عن تدبره ، ويغيب عن الذهن تذكره ، بانهماك الناس في معايشهم واشتغالهم بما يكافحون من شدائد الدنيا ، أو ما يلذ لهم من نعيمها ، ولهذه الضروب من المكافحات ، والفنون من تمتع باللذات ، سلطان قاهر على النفس ، وحاكم مسخر للعقل والحس ، يتنكب بالمرء سبيل الهدى ، حتى تتفرق به سبل الهوى ، فمن ثم كان المكلف محتاجا في تأديب الشهوات الحيوانية ، إلى مذكر يذكره بمكانته الروحانية ، التي هي كمال حقيقته الإنسانية ، وهذا المذكر هو الصلاة فهي التي تخلع الإنسان من تلك الشواغل التي لابد لها منها ، وتوجيهه إلى ربه جل وعلا ، فتكثر له مراقبته ، حتى تعلو بذلك همته ، وتزكو نفسه ، فتترفع عن البغي والعدوان ، وتتنزه عن دناءة الفسق والعصيان ، ويجيب إليها العدل والإحسان ، بل ترتقي في معارج الفضل إلى مستوى الامتنان{[223]} فتكون جديرة بإقامة تلك الحدود ، وزيادة ما يحب الله تعالى من الكرم والجود ، ذلك أن الصلاة تنهى بإقامتها على وجهها عن الفحشاء والمنكر ، ولذكر الله فيها أعظم من جميع المؤثرات وأكبر ، فإذا كان الإنسان قد خلق هلوعا ، إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا ، فقد استثنى الله تعالى من هذا الحكم الكلي المصلين ، إذا كانوا على الصلاة الحقيقية محافظين .لهذا قال:
{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} قال بعض المفسرين في وجه اختيار لفظ المحافظة على حفظ أن الصيغة على أصلها تفيد المشاركة في الحفظ وهي هنا بين العبد وربه كأنه قيل:احفظ الصلاة يحفظك الله الذي أمرك بها ، احفظوها تحفظكم من الفحشاء والمنكر بتنزيه نفوسكم عنهما ، ومن البلاء والمحن بتقوية نفوسكم عليهما كما قال:{ واستعينوا بالصبر والصلاة} ( البقرة:45 ) وقال الأستاذ الإمام:قال حافظوا على الصلوات ولم يقل احفظوها ، لأن المفاعلة تدل على المنازعة والمقاومة ، ولا يظهر قول بعضهم إن المفاعلة للمشاركة لأن الصلاة تحفظه كما يحفظها ، إلا لو كانت العبارة حافظوا الصلوات ، ولكنه قال على الصلوات ، أي اجتهدوا في حفظها والمداومة عليها اه لا يريد الأستاذ بهذا أن الصلاة لا تحفظ مما ذكر ، وإنما يريد أن لفظ حافظوا لا يدل على هذا المعنى الثابت في نفسه .والذي أفهمه في المفاعلة على الشيء هو فعله المرة بعد المرة ومنه حافظ عليه وواظب عليه وداوم عليه ، إلا إذا كانت"على "للتعليل كقاتله على الأمر ، أي لأجله ، فالمقاتلة فيه للمشاركة ولا يصح هنا .وحفظ الصلاة المرة بعد المرة على الاستمرار عبارة عن الإتيان بها كل مرة كاملة الشرائط والأركان العملية ، كاملة الآداب والمعاني القلبية ، فالشيء الذي يتعاهد بالحفظ دائما هو الذي لا يلحقه النقص وإلا لم يكن محفوظا دائما .
والصلوات هي الخمس المعروفة ببيان من بين للناس ما نزل إليهم ، ونقلت عنه بالتواتر العملي ، وأجمع عليها المسلمون من جميع الفرق ، فهم على تفرقهم في كثير من المسائل متفقون على أن جاحد صلاة من الخمس لا يعد مسلما ، على أنهم استنبطوا كونها خمسا من ذكر الوسطى في الجمع كما في تفسير الرازي .قال الأستاذ الإمام:وهو من قبيل التماس النكتة ، ومن آيات أخرى كقوله تعالى:{ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون} ( الروم:17-18 ) وسيأتي بيان كل شيء في محله إن شاء الله تعالى .وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح ، يقولون سبح الغداة مثلا .أي صلى الفجر .
والصلاة الوسطى هي إحدى الخمس .والوسطى مؤنث الوسط ، ويستعمل بمعنى المتوسط بين شيئين أو أشياء لها طرفان متساويان ، وبمعنى الأفضل ، وبكل من المعنيين قال قائلون .ولذلك اختلفوا في:أي الصلوات أفضل وأيتها المتوسطة .وللعلماء في ذلك ثمانية عشرا قولا أوردها الشوكاني ( في نيل الأوطار ) أصحها رواية ما ذهب إليه الجمهور من كونها صلاة العصر لحديث علي عند أحمد ومسلم وأبي داود مرفوعا:( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ){[224]} رواه أحمد والشيخان عنه بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب ( ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ){[225]} ولم يذكر العصر ، ولذلك قال بعضهم إنها الظهر لأنه شغل يوم الأحزاب عنها وعن العصر جميعا وهي متوسطة وكانت تشق عليهم لأنها تؤدى في وقت الحر والعمل ، وفي رواية عن علي عند عبد الله بن أحمد في مسند أبيه كنا نعدها الفجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هي صلاة العصر ){[226]} .
ووجه ما رواه أولا توسطها وقوله تعالى في سورة الإسراء:{ أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} ( الإسراء:78 ) فقد أشار في الآية إلى الصلوات وجعل الفجر مزية خاصة بها وهو كون قرآنها مشهودا ، وورد في معناه أنها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار .وفي الحديث التصريح بأن صلاة العصر تشارك صلاة الفجر بهذه المزية .ولأصحاب الأقوال الأخرى في تعيين الصلاة الوسطى أحاديث لا تصل إلى درجة ما ورد في صلاة العصر ، فقيل هي الفجر وقيل هي الظهر كما مر وقيل هي المغرب وقال الأخفش هي صلاة الجمعة .وقال بعضهم إنها غير معروفة وإن الله تعالى أبهم الصلاة الفضلى التي ثوابها أكثر لنحافظ على كل صلاة .
قال الأستاذ الإمام:ولولا أنهم اتفقوا على أنها إحدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله:{ والصلاة الوسطى} أن المراد بالصلاة الفعل وبالوسطى الفضلى ، أي حافظوا على أفضل أنواع الصلاة وهي الصلاة التي يحضر فيها القلب وتتوجه بها النفس إلى الله تعالى وتخشع لذكره وتدبر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين .
ويقوي هذا قوله بعدها{ وقوموا لله قانتين} فهو بيان لمعنى الفضل في الفضلى وتأكيد له ، إذ قالوا أن في القنوت معنى المداومة على الضراعة والخشوع ، أي قوموا ملتزمين لخشية الله تعالى واستشعار هيبته وعظمته ، ولا تكمل الصلاة وتكون حقيقة ينشأ عنها ما ذكر الله تعالى من فائدتها إلا بهذا ، وهو يتوقف على التفرغ من كل فكر وعمل يشغل عن حضور القلب في الصلاة ، وخشوعه لما فيها من ذكر الله بقدر الطاقة .
وأقول:إنه ليس عندنا نص صريح في الحديث المرفوع ينافي ما ذكره الأستاذ الإمام في الصلاة الوسطى فقد قال بعض المحدثين إن لفظ"صلاة العصر "في حديث علي مدرج من تفسير الراوي .قالوا ولولا ذلك لما اختلف الصحابة فيها ، وأيدوا ذلك ببعض الروايات كرواية مسلم ( شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس .يعني صلاة العصر ) وما قاله في القنوت هو لباب الأقوال الكثيرة التي أوصلها ابن العربي إلى عشرة نظمها في قوله:
ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد *** مزيدا على عشر معاني مرضيه
دعاء ، خشوع ، والعبادة ، طاعة *** إقامتها إقرارنا بالعبوديه
سكوت صلاة والقيام وطوله *** كذاك دوام الطاعة الرابح النيه
وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه من حديث زيد بن أرقم قال كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت:{ وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام{[227]} .وذلك أن القنوت عبارة عن الانصراف عن شؤون الدنيا إلى مناجاة الله تعالى والتوجه إليه لدعائه وذكره ، وحديث الناس مناف له فيلزم من القنوت تركه ، ويدل على ذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال:كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد ، فقلناأي بعد الصلاةيا رسول الله كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا فقال:( إن في الصلاة شغلا ){[228]} وقال سعيد بن المسيب المراد بالقنوت هنا القنوت المعروف في صلاة الصبح وهو إن صح يرجح أنها الصلاة الوسطى .
المحافظة على الصلوات آية الإيمان الكبرى ، وقد جعل الشرع الصلاة والزكاة شرطا لصحة الإسلام وأخوة الدين وماله من الحقوق ، قال تعالى في أوائل سورة التوبة في الكلام على المشركين المعتدين{ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} ( التوبة:11 ) والأحاديث في منطوق الآية ومفهومها كثيرة .منها حديث ابن عمر عند أحمد والبخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل ){[229]} والمراد بالناس هنا المشركون أهل الأوثان لا أهل الكتاب الذين يقبل منهم الجزية ومن في حكمهم كالمجوس ، ذلك أنهم هم الذين كانوا يقاومون دعوة الإسلام ما لا يقاومها سواهم ، وكان استقرار الدين من غير دخول مشركي جزيرة العرب في الإسلام ضربا من المحال ، والكلام هنا في مكانة الصلاة من الإسلام لا في الدعوة وحمايتها .
وروى أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ){[230]} وروى أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم من حديث بريدة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( العهد الذي بيني وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر ){[231]} صححه النسائي والعراقي وروى أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال:( من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف ){[232]} وفي الآثار ما يشعر بأن الصحابة كانوا متفقين على ذلك فقد روى الترمذي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله بن شقيق العقلي قال:كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة{[233]} .
أرأيت هذه الآيات العزيزة ، والأحاديث الناطقة بالعزيمة ، قد نال التأويل منها نيله في الزمن الماضي ، وأعرض جماهير المسلمين عنها في الزمن الحاضر ، حتى كثر التاركون الغافلون والمارقون ، وقل عدد المصلين الساهين وندر المصلون المحافظون ، ذلك أن الإسلام عند هؤلاء المسلمين ، الذين يصفون أنفسهم بالمتمدنين ، قد خرج عن كونه عقيدة دينية ، إلى كونه جنسية سياسية .آية الاستمساك به والمحافظة عليه والدفاع عنه:مدح كبراء حكامه وإن كانوا لا يقيمون حدوده ولا ينفذون أحكامه ، بل رفعوا أنفسهم إلى مرتبة التشريع العام ، واستبدال القوانين الوضعية بما نزل الله من الأحكام ، فلا غرو أن يعد الذي يغلو بمدح دولته أو بذم عدو لها من أكبر أنصار الإسلام ، وإن كان لا يعرف حقيقة عقيدته ولا يقيم الصلاة ولا يأتي الزكاة ، ولا يحفل بغير ذلك مما أنزل الله ، ولا يشترط أن يكون مخلصا في دفاعه يتحرى به وجه المنفعة العامة لا تتبع طرق المال والجاه ، أرأيت هؤلاء المسلمين سياسة ؟ إن أحدهم لتتلى عليه تلك الآيات والأحاديث فيصر مستكبرا كأنه لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ، فمنهم من يصده عنها عدم إيمانه بها وهو الذي قد يصف نفسه أو يصفه أقرانه"بالمتمدن والمتنور "ومنهم من يصدف به عنها الاتكال على شفاعة الشافعين ، والغرور بالانتساب إلى الإسلام ، والاعتقاد بأن النسبة إليه كافية في نيل سعادة الآخرة وعدم المؤاخذة فيها على شيء ، ولاسيما الذي يسمي نفسه"محسوبا على أحد الصالحين "وهذا اعتقاد أكثر العامة ، ولهم من مشايخ الطرق وغيرهم ما يمدهم في غيهم ، ويستدرجهم في غرورهم ، وما أعظم غرور من يأخذ منهم العهد ، ويحافظ على الورد .
نعم إن للإسلام دولة وإن كان هو نفسه دينا لا جنسية ، ووظيفة دولته أو حكومته إنما هي نشر دعوته ، وحفظ عقائده وآدابه ، وإقامة فرائضه وسننه ، وتنفيذ أحكامه في داره .فمن ينصر حكومة الإسلام فإنما ينصرها بمساعدتها على ذلك بالعمل به في نفسه ، وبحمل غيره من حاكم ومحكوم عليه ، لأنه هو المقوم والمعزز للأمة ، وإنما الدولة بالأمة .وإن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هما أعظم شعائر الإسلام ، فالصلاة هي الركن الركين لصلاح النفوس ، والزكاة هي الركن الركين لصلاح الاجتماع ، فإذا هدما فلا إسلام في الدولة .
ماذا كان من أثر الصلاة والتهاون بالدين في المدن والقرى والمزارع ؟ كان من أثره في المدن فشو الفواحش والمنكرات ، تجد حانات الخمر ومواخير الفجور والرقص وبيوت القمار غاصة بخاصة الناس وعامتهم حتى في ليالي رمضان ، ليالي الذكر والقرآن ، وعبد الناس المال ، لا يبالون أجاء من حرام أم من حلال ، وانقبضت الأيدي عن أعمال الخير ، وانبسطت في أفعال الشر ، وزال التعاطف والتراحم ، وقلت الثقة من أفراد الأمة بعضهم ببعض فلا يكاد يثق المسلم إلا بالأجنبي ، وغير ذلك من فساد الأخلاق ، وقبح الفعال في الأفراد ، وأكبر من ذلك انحلال الروابط الملية بل تقطع أكثرها ، حتى كادت الأمة تخرج عن كونها أمة حقيقية متكافلة بالمصالح الاجتماعية والتعاون على الأعمال المشتركة التي تحفظ وحدتها ، وطفق بعض هؤلاء"المتمدنين "الذين قطعوا روابطها بأيديهم ، يفكرون في جعل الرابطة الوطنية لأهل كل قطر بدلا من الرابطة الملية الجامعة لأهل الأقطار الكثيرة ، فلم يفلحوا ولكن أثر كلامهم أردأ التأثير في مصر ، فالأمة الآن في دور الانسلاخ عما كانت به أمة بسيرة سلفها الصالحين ، فتنكبها هؤلاء الذين قال الله فيها:{ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} ( مريم:59 ) وهذا الانسلاخ هو الغي الذي تواعدهم الله تعالى به في الدنيا .
وأما أثر ذلك في القرى والمزارع فاستحلال جماهير الفلاحين لإهلاك الحرث والنسل عملا لا قولا ، وذلك باعتداء بعضهم على زرع البعض بالقلع قبل ظهور الثمرة وبالسرقة بعدها ، وعلى بهائمه بالقتل بالسم أو السلاح ، بل باعتدائهم على أنفسهم بالسلب والنهب والقتل ، حتى أعيا ذلك الحكومة على اهتمامها بأمرهم ، فبلاد الأرياف المصرية لا أمن فيها على النفس والمال بتأمين الحكومة لأنها صارت كالبوادي التي ليس فيها حكام .لا يعتمد أحد على غير نفسه وعصبته في حفظ نفسه وحقيقته .ولو حافظ هؤلاء وأولئك على الصلوات كما أمر الله تعالى لانتهوا عن الفحشاء والمنكر بالوازع النفسي ، فإن الصلاة كما يقول مختار باشا الغازي كالبوليس ( المحتسب ) الملازم يمنع من عمل السوء .وأنى يحافظون عليها ومنهم الذي كفر بالله تقليدا ، ومنهم الذي آمن بما وجد عليه آباءه ، وهو أن مرضاة الله تعالى بالنجاة من عذابه والفوز بنعيم الآخرة عنده ، لا تحصل إلا بواسطة أحد الأولياء الميتين ، وإنما يتوسطون لمن يحتفل بموالدهم ، أو يسيب لهم السوائب من البقر وغير البقر ، ويقدم لأضرحتهم الهدايا والنذور ، ومنهم الذي يتعلم كيفية أقوال الصلاة وأعمالها البدنية يؤدونها وهم عن الله ساهون ، يراؤون الناس ويمنعون الماعون ، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم:{ فويل للمصلين} ( الماعون:4 ) وإنما المحافظون على الصلاة هم الذين قال فيهم:{ قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون} ( المؤمنون:1 ) الخ الآيات .
المحافظ على هذه الصلاة الفضلى ينتهي عن الفحشاء والمنكر ، فلا يرضى لنفسه أن يكون حلسا من أحلاس بيوت القمار ومعاهد اللهو والفسق .
المحافظ على هذه الصلاة لا يمنع الماعون ، بل يبذل معونته ورفده لمن يراه مستحقا لهما .
المحافظ على هذه الصلاة لا يخلف ولا يلوي في حق غيره عليه ، وإن حقا فرضه على نفسه ، أو التزمه برا بغيره ، كالاشتراك في الجماعات الخيرية .
المحافظ على هذه الصلاة لا يضيع حقوق أهله وعياله ، ولا حقوق أقاربه وجيرانه ، ولا حقوق معامليه وإخوانه .
المحافظ على هذه الصلاة لا تجزعه النوائب ، ولا تقل غرار عزمه المصائب ، ولا تبطره النعم ، ولا تقطع رجاءه النقم ، ولا تبعث به الخرافات والأوهام ، ولا تطير به رياح الأماني والأحلام ، فهو الإنسان الكامل الذي يؤمن شره ، ويرجى في الناس خيره ، ولو أن فينا طائفة من المصلين الخاشعين ، لأقمنا بهم الحجة على المارقين والمرتابين .
ولكن المحافظ على الصلوات والصلاة الوسطى مع القنوت والخشوع قد صار أندر من الكبريت الأحمر ، ومن عرفه لا يصدق أن للصلاة يدا في آدابه العالية ، واستقامته في السر والعلانية .وكأني ببعض القارئين لما تقدم وقد ملوا منه ، ورموا الكاتب بالغلو فيه{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها*إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم} ( محمد:25 ) .