[ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ( 238 ) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ( 239 )] .
توسطت الآيات التي تبين أحكام الأسرة ، وعلاقات الزوجين عند الافتراق بالطلاق ، أو عند التفريق بينهما بالموت – آيتان كريمتان تدعوان إلى الصلاة والمحافظة عليها ، والإتيان بها على وجهها الكامل:من قنوت لله ، وخضوع له ، وخشوع وابتهال وضراعة ، ولذلك التوسط مغزاه ومرماه ، ذلك بأن الله سبحانه وتعالى دعا إلى العفو والتسامح ، وعدم نسيان الفضل عند الافتراق ، ومنع المشاحنة والمنازعة حيث تتوقعان ، ولقد بين سبحانه بعد ذلك ما يربي في النفس نزوع التسامح ، والبعد عن التجافي ، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى ، والإحساس بالخضوع له والانصراف إليه ، ومحبته وطلب رضاه ، فإن من يحب الله ورضوانه يحب الناس ولا ينازعهم ؛ لأن الله سبحانه رب الناس وخالق الناس ، وهو القاهر فوق عباده والقادر على كل شيء ، والمحبة في الله والبغض في الله ركن الإيمان ، ولا يكون ذلك كله إلا بالقيام بالصلاة وأدائها على وجهها ، ولذا قال تعالى:[ إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر . . .45] ( العنكبوت ) . وإن أداء الصلاة على وجهها والقيام بحقها ليس أمرا صغيرا ، بل إنه أمر كبير خطير ، له نتائجه العليا في الاتجاه بالنفس الإنسانية نحو السمو والتعالي عن متنازع الأهواء في هذه الحياة ، ولذلك قال تعالى في الاستعانة على التغلب على الأهواء في حياتنا الدنيا:[ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين 45] ( البقرة ) .
و قد يقول قائل:أفما كان الأولى أن تذكر آيات الصلاة بعد بيان أحكام الأسرة كلها ؟ ونقول في الجواب عن ذلك:إن الحق الذي لا ريب فيه هو فيما سلكه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وإن كتاب الله ليس مؤلفا ينهج مناهج التأليف من حيث التبويب والتقسيم ، بل إن كتاب الله تعالى كتاب عظة واعتبار ، وبيان شرع ، وإرشاد ، ولترتيب منهاجه وحده ، ولا يضارعه كتاب فيه ، فهو يتتبع في ترتيبه تداعي المعاني في النفس ، وتواردها على الفكر ، ويأتي بالحكم حيث تتطلع النفوس إليه ، فيملؤها ببيانه الرائع ، وحكمه الخالد .
و لاشك أن العقل البشري يتطلع ويستفهم كيف يمكن تذكر الفضل في وقت تلك الفرقة التي في أغلب أحوالها تكون نتيجة للبغض الشديد ، وكيف يكون التسامح والعفو في موطن تحكم البغض ، فأجاب الله سبحانه داعية العقل ، وتطلع الفكر ، بأن الصلاة على وجهها حيث يخاطب العبد ربه ، وينصرف إليه خاشعا ضارعا محسا بعظمته وتجليه ، ومتجها إليه سبحانه في علو سلطانه ، إن ذلك كله هو الذي يعلو بالنفس عن شهواتها ، و يصعد بها في سموها ، تعالت كلمات الله العلي القدير ، وتسامت حكمة العليم الخبير .
[ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى] الصلوات جمع صلاة ، والصلاة لها معنى إسلامي ، وهي تلك الهيئة المعروفة ، ومعنى آخر وهو الدعاء والتسبيح ، والمراد هنا المعنى الإسلامي ، وهذا أمر صريح بالمحافظة على الصلاة ، وحفظ الصلاة معناه:المداومة عليها ، والاستمرار على أدائها ، وعدم التهاون في ركن من أركانها ، فالمحافظة على الصلاة تقتضي لا محالة أمرين:
أولهما:أداؤها باستمرار في أوقاتها من غير تخلف ولا تفريط ، وهذا هو الحد الأدنى في المحافظة .
و ثانيهما:هو الإتيان بها كاملة الأركان مستوفية للشروط ، تشترك فيها النفس مع حركات الجسم ، ويشترك فيها القلب مع حركات الجوارح وما ينطق به اللسان ، فإن قال في صلاته:( الله أكبر ) أحس بجلال الألوهية ، وعظم الربوبية ، وأخلص قلبه للعبودية ، وإذا قال:( الحمد لله رب العالمين ) استشعر معاني الشكر والثناء على ذات الله العلية بما هو في طاقة العبد الأرضية ، وهكذا في كل ما ينطق به ، وفي كل ما يعمل من ركوع وسجود ، حتى إنه لا ينتهي من صلاته إلا وقد صار كله لله ، وامتلأت نفسه بهيبته ، وقلبه بعظمته ، وعقله بنوره ، وبذلك يتحقق المعنى السامي في الصلاة ، وهو نهيها عن الفحشاء والمنكرات ، والتسامي بصاحبها عن متنازع الأهواء .
و هنا بعض الإشارات اللفظية التي لابد من التصدي لها بإجمال ، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى عبر عن إقامة الصلاة المطلوبة بالمحافظة عليها فلم عدل عن التعبير بإقامة الصلاة إلى التعبير بالمحافظة ؟ ولماذا قال سبحانه وتعالى:[ حافظوا على الصلوات] ولم يقل:احفظوا الصلوات ؟
و الجواب عن السؤال الأول:أن المحافظة والحفظ تتضمن مع الأداء والإقامة معنى الصيانة والحياطة ، فهي فوق ما تدل عليه من طلب الإقامة على وجهها ، تدل على أن الصلاة في ذاتها شيء نفيس عزيز تجب حياطته وصيانته ، وأن من نال فضل الصلاة فقد نال أمرا عظيما وخطيرا ، وقيما في ذات نفسه .
و أما الجواب عن السؤال الثاني:وهو التعبير بالمحافظة بدل الحفظفهو:أن التعبير بالمحافظة يدل على المداومة ، والاستمرار ، ولأن الأصل فيه أن يكون للأفعال التي تكون من جانبين مشتركين ، لأنه من مادة المفاعلةالتي تدل على المشاركة ، وقد تتضمن المنازعة أو المقابلة ، والمداومة على الصلاة فيها هذا المعنى الجليل ، وقد وضحه الراغب الأصفهاني بقوله في المفردات:( إنهم يحفظون الصلاة بمراعاتها في أوقاتها ومراعاة أركانها والقيام بها في غاية ما يكون من الطوق ، وإن الصلاة تحفظهم الحفظ الذي نبه الله سبحانه وتعالى عليه في قوله:[ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . .45] ( العنكبوت ) فالمشاركة في الحفظ بين الصلاة وبين من يؤديها:يحفظها هو بأدائها على الوجه الأكمل ، وتحفظه هي نفسه بإبعاده عن السوء ) .
و قد قيل إن المحافظة بين العبد والرب ، العبد يحفظ الصلاة ويصونها ويؤديها على وجهها ، والرب يحفظه ويصونه عن المعاصي ، وهذا في المعنى الأول أو قريب منه .
و يصح أن يكون معنى المحافظة هو المداومة عليها بمغالبة دواعي التفريط مما توسوس به النفس في الطاعات ، فصيغة المحافظة ليست للدلالة على المشاركة في الحفظ ، بل تدل على المغالبة في سبيله ، كالمصابرة ، وذلك لأن من يديم الصلاة مقيما لها على وجهها تقاومه نوازع النفس الأمارة بالسوء ، وإن ذلك يقتضي مغالبة نفسية ، فكان التعبير بالمحافظة دالا على ذلك أو مشيرا إليه .
و إلى هذا المعنى أشار الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فيما رواه عنه السيد رشيد رضا من تفسير .
و لقد قال سبحانه بعد الأمر بالمحافظة على الصلوات عامة:[ والصلاة الوسطى] فما هي الصلاة الوسطى التي خصها الله سبحانه بالذكر ، أهي واحدة من ذلك المجموع الذي أمر به ، أم هي المجموع موصوفا بهذا الوصف ؟
في التفسير المأثور عن الصحابة والتابعين اتجاهان واضحان:
أحدهما:اتجاه الجمهور وهو أن الصلاة الوسطى واحدة من الخمس الصلوات المفروضة وإن اختلفوا في تعيينها ، وكثرتهم على أنها صلاة العصر ، لوصف النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بأنها الوسطى{[339]} ، ولأنها تقع في وسط الصلوات الخمس ، فقبلها اثنان وبعدها اثنان ، ولأنها وسط بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ، فمعنى التوسط فيها واضح ، وخصت بالمحافظة عليها ، لأنها مظنة التفريط ، إذ تجيء بعد القيلولة ، فيكون كسل ، فخصت بالذكر لهذا المعنى لا لأنها أفضل من غيرها ، فجميعها قربات تزكي النفس وتطهر القلب .
والاتجاه الثاني:وليس عليه الجمهور من التابعينأن المراد بالصلاة الوسطى الصلاة كلها ، والوسطى ليس معناها المتوسطة ، بل الوسطى معناها الفضلى ، وذلك لأن الوسطى مؤنث أوسط ، والأوسط في أكثر استعمال القرآن الأمثل والأفضل ، ولذا قال سبحانه:[ قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون 28] ( القلم ) .
و المعنى على ذلك الاتجاه:حافظوا على الصلوات كلها بالمداومة عليها ، وحافظوا على أن يكون أداؤكم لها من النوع الأمثل الفاضل بإقامة الأركان خاشعين متبتلين خاضعين منصرفين في أدائها عن كل شئون الدنيا متجهين إلى رب العالمين دون سواه .
و هنا يرد سؤال:لماذا جمع الصلوات في الأول ، وأفرد الصلاة في الثاني ؟
و الجواب عن ذلك أن المراد من الصلوات في الأول الفرائض الخمس بأعيانها ، والمعنى في الصلاة في الثاني هو الفعل ، فكان المؤدى:داوموا على الصلوات وأن تكون صلاتكم كلها من النوع الأمثل الفاضل .
و قد روي هذا الاتجاه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وقد اختار ذلك الاتجاه الحافظ أبو عمر بن عبد البر إمام الأندلس في الحفظ والآثار ، وإنا نميل إلى ذلك ، وخصوصا أن الروايات في كونها صلاة معينة من الخمس متضاربة ، فقيل العصر ، وقيل الظهر ، وقيل الصبح ، وقيل الجمعة ، وقيل الظهر والعصر ، وقيل الصبح والعصر ، وإزاء ذلك نميل إلى ما اختاره ابن عبد البر ، وهو الثقة الثبت في الحفظ ونقد المتن والرجال .
[ و قوموا لله قانتين] القنوت في معناه المداومة على الفعل ، وقد خصه القرآن الكريم بمعنى الدوام على الطاعة والملازمة لها وأدائها على وجهها ، ومن ذلك قوله تعالى في وصف نبيه إبراهيم عليه السلام:[ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا . . .120] ( النحل ) وقال سبحانه مخاطبا نساء النبي صلى الله عليه وسلم:[ ومن يقنت منكن لله ورسوله . . .31] ( الأحزاب ) وقال في وصف المؤمنين والمؤمنات:[ و القانتين والقانتات . . .35] ( الأحزاب ) .
فالقنوت على هذا المعنى الإسلامي الرائع:ملازمة الطاعة والقيام بالعبادة في خشوع ضارع ، وانصراف كامل ، وشعور بالعبودية الحقة لله رب العالمين ، فمعنى قوله تعالى:[ وقوموا لله قانتين]:قوموا بعبادتكم على وجهها الكامل ملازمين للخضوع والخشوع ،غير مفرطين ولا منصرفين عن رب العالمين ، مستشعرين عظمته ، قد ملأت قلوبكم هيبته .
و نرى من هذا أن قوله تعالى:[ و قوموا لله قانتين] يزكي ما اختاره ابن عبد البر ويقويه ، وهو أن معنى الصلاة الوسطى ، الصلاة الفضلى والمثلى ، وهي التي تؤدى على الوجه الأكمل .
و لهذا المعنى السامي في الصلاة ، كانت أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله ، فإن كانت ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )هي الفارق بين الإسلام والكفر ، فالصلاة ثمرتها الأولى ، والدعامة من بعد ذلك لكل الطاعات والفرائض ، بها إن أديت على وجهها تستعصم النفس عند الشهوات ، وبها إن أديت على وجهها يلتزم العبد ما أمر الله ، وينتهي عما نهى الله سبحانه وتعالى عنه ، وبها يكون التعامل الفاضل بين الناس بعضهم مع بعض ، لأنها ذكر دائم لله سبحانه وتعالى ، فتمتلئ النفس البشرية بعظمة الله ، وتستنير البصيرة ، ويتجه المؤمن إلى الخير ، ولقد قال بعض العلماء إن ترك الصلاة كفر وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "{[340]}. وروى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندما ذكر الصلاة:"من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف "{[341]} .