[ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم] بين سبحانه في الآية السابقة ، ما يجب عند الطلاق قبل الدخول إن لم يكن قد سمي مهر وقت العقد ، وفي هذه الآية يبين المطلوب إذا سمي مهر ، وكان الطلاق قبل الدخول أيضا ، وقد قدم حكم الحال الأولى ، لأن عدم ذكر المهر مظنة ألا تعطى شيئا إذا كان الطلاق قبل الدخول ، فسيقت الآية الكريمة ببيان هذا الوجوب ليزول من الأفهام ما يسبق إليها .
و قد بينا معنى الفرض فيما سبق ، ومعنى الآية الكريمة:إن طلق أحدكم المرأة وقد قدر لها مهرا وقت العقد ، فالواجب عليه هو نصف المهر الذي تراضيا عليه وقت العقد . وقد صرحت الآية بوجوب النصف ، ولم تصرح بوجوب دفعه ؛ لأنه عسى أن يكون قد قدم لها المهر كله أو بعضه ، بل إن ظاهر الحال أنه يكون قد قدم المهر كله ، أو نصفه ، أو أكثر منه ، فكان التعبير بالوجوب ليبين حق المطلق في استرداد ما دفعه أكثر من النصف ، وليشمل وجوب الأداء ومقداره إن لم يكن قد أدى شيئا أو أدى أقل من النصف .
[ إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح] هذا استثناء من الوجوب الذي قدره الله سبحانه وتعالى بالنصف ، وهذا الاستثناء يبين الله سبحانه وتعالى فيه أن وجوب المهر إنما هو لحق العاقدين ، وأن العفو عنه بابه متسع لمن يريد أن يصل إلى رحابه الفسيح ، والعفو معناه:الإبراء والتنازل عن المطالبة سماحا ، فإن كان الزوج أدى المهر كله فقد فتح له الشارع باب العفو بأن يترك لها حقه مبالغة في مرضاتها ، وقد أرمض نفسها{[336]}بالطلاق ، وإن كان الزوج لم يقدم لها مهرا ، وحدث الطلاق برغبة منها فإنه يحسن العفو منها وترك المطالبة ، حتى لا تصيبه الخسارة في عقد لم ينل منه مأربا ، وقد يكون مظهر العفو بالعطاء بأن يقدم الرجل كل صداقها إن لم يكن قد أعطاها شيئا منه . وفي الجملة إن العفو مستحسن منكل منهما في موضعه ، فيستحسن منها إن كانت راغبة في الطلاق غير راضية بالبقاء ، ويحسن منه إن كان الطلاق بغير طلبها .
و قوله [ إلا أن يعفون] معناه:إلا أن يعفو النساء عن صداقهن ، أو عن حقهن ، فالنون هنا نون النسوة ، ووزن يعفون يفعلن .
و معنى قوله تعالى:[ أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح] أي يعفو الزوج الذي بيده عقدة النكاح ، فيستطيع فكها بالطلاق إن شاء ، وإبقاءها إن شاء . وقيل:إن المراد به الولي الذي عقد الزواج ، وذلك لأن الولي على مقتضى مذهب جمهور الفقهاء هو الذي تولى عقد الزواج ، فهو الذي بيده عقدته . وإن الذي نختاره هو أن المراد الزوج لا الولي ، وذلك لأمور ثلاثة:
أولها:إن العقدة ليس معناها العقد ، لأن العقد هو الربط الذي يتم به الاتفاق بين الرجل والمرأة ويكون به النكاح ، وهو الزواج ، أما العقدة ، فهي الرابطة التي تكون بعد العقد أو الأثر الذي ينتجه العقد . ولاشك أن العقدة بهذا المعنى يملكها الزوج ، ولا يملكها الولي .
ثانيها:إن مقتضى الآية أن من بيده عقدة النكاح أي الزواج يستطيع أن يعفو عن مقدار من المهر ، ومن المقررات الفقهية أن الولي على النفس ليس له أن يسقط حقا ماليا ، خصوصا إذا كان في وقت الطلاق .
ثالثها:إن العفو من جانب النساء يثبت بقوله:[ يعفون] والعفو مستحسن من الرجل ، كما هو مستحسن من المرأة ، وكل له موضع . فإذا ذكر الله سبحانه عفوهن ، فمقتضى السياق أن يذكر عفو الرجل ، ولو فسر قوله:[ بيده عقدة النكاح] بولي الزوجة لكان هذا أن العفو هو المستحسن من النساء دائما ، مع أن الله يقول مخاطبا الجميع:[ وأن تعفوا أقرب إلى التقوى] .
و التعبير بقوله تعالى عن الزوج بأنه بيده عقدة النكاح يشير إلى أن الزوج هو الذي يملك فك الزواج بالطلاق ، فكان العفو من جانبه أحق وألزم .
[ و أن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم] في هذه الجملة الكريمة إشارة إلى وجوب التسامح والتعاطف في وقت ذلك الافتراق القاطع ، وإلى أنه تجب الرحمة في وقت الانفصال ، ولذلك صرح سبحانه بأن العفو:أي ترك بعض الحقوق في ذلك الوقت ، أقرب لتقوى الله سبحانه ، وأدنى إلى رضاه ، لكي يكون الافتراق بمفرده ، ولا تكون مشاحة تدفع إلى المشادة ، ثم إلى الخصومات التي تورث العداوات ، وتستمر الأحقاد بين الأسرتين ، وتكون الإحن ومن ورائها المحن .
و لقد ذكر سبحانه أهل الفضل بفضلهم فقال:[ ولا تنسوا الفضل بينكم] أي لا يذهب بكم الغضب والمكايدة إلى درجة لا تتذكرون فيها ما يكون عندكم من شمم وإباء ، وإرادة للتفضل والعطاء .
و الفضل في أصل معناه:الزيادة في كل شيء ، وأكثر ما يكون في الزيادة في الأشياء المحمودة ، ولذا صار يطلق بمعنى العلو ، فيقال:فضل هذا على ذاك كذا . ومنه الفضيلة ، لما فيها من خير زائد ، ولما فيها من علو نفسي وكمال وسمو .
فالله سبحانه وتعالى ، حين ذكر المطلقين بالفضل الذي أنساهم إياه الغضب ، صرفهم إلى الاتجاه إلى الكمال ، والتعالي عن سفساف المشاحنات والمنازعات ، ليكونوا هم الأعلين دائما .
و لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتجهون ذلك الاتجاه السامي ، فيروى أن بعض الصحابة تزوج امرأة ، وطلقها قبل أن يدخل بها ، فأعطاها الصداق كاملا ، فقيل له في ذلك ، فقال:أنا أحق بالعفو منها .
و يروى أن جبير بن مطعم تزوج ابنة سعد بن أبي وقاص ، ثم طلقها قبل الدخول وبعث لها المهر كاملا ، فقيل له:لم تزوجتها ؟ فقال:عرضها علي فكرهت رده ، قيل:فلم بعثت بالصداق ؟ فقال:وأين الفضل ؟ .
و لقد ذيل الله سبحانه وتعالى أوامره الحاسمة ، وإرشاده الحكيم بقوله عز من قائل:[ إن الله بما تعملون بصير] للإشارة إلى أنه مطلع على حركات الجوارح ، وخلجات النفوس ، ونيات القلوب ، وما تخفي الصدور ، فليعلموا ذلك ، فإن العلم به يربي فيهم المهابة منه سبحانه وتعالى ، إذ يشعرون برقابته ، فيكفكفون{[337]} من غضبهم ، وينهنهون{[338]} من حدتهم وقت الطلاق ، حتى لا يذهب بهم فرط الغضب إلى نسيان المعروف ، وتجاهل الفضل ، فلا يسرحوا بإحسان بعد أن فات الإمساك بمعروف .
و قبل أن ننهي الكلام في معاني هذا النص الكريم لابد من الإشارة إلى أمرين:
أولهما:لماذا كان المهر في الزواج من جانب الزوج ؟
و الثاني:ولماذا وجب النصف أو ما في معناه ، وهو المتعة إن حصل الطلاق قبل الدخول ؟
و الجواب عن السؤال الأول:أن المهر شرع في الزواج على أنه ثمرة من ثمرات العقد ، وأثر من آثاره ، وليس ركنا من أركانه ، وليس شرطا من شروطه ، فليس هو كالثمن في البيع كما فهم بعض الذين لا يفقهون المعاني الشرعية على وجهها ، وشرعيته على أنه هدية واجبة من الرجل لزوجته ؛ لأن المرأة إذ تنتقل من بيت أبيها إلى بيت زوجها ، تستقبل حياة جديدة ، وهي تحتاج في سبيلها إلى ثياب ، وزينة وعطر وغيرها بالقدر الذي يليق بحالها ، فكان من اللازم أن يقوم لها الزوج ببعض ما يعينها على ذلك ، ولذا أوجب الله لها المهر ، وأوجب العرف أن يقدم بعضه على الزفاف إليه .
و قد جرى عرف الناس على أن المرأة هي التي تعد أثاث البيت ، وما يحتاج إليه من فراش ، فكان من الواجب أن يعينها الزوج على ذلك ببعض المال يقدمه ، فكان هو المهر ، أو بعبارة أدق معجلة .
و إن تقديم المهر من جانب الرجل هو النظام الفطري ؛ لأن الرجل هو الكادح العامل الكاسب للمال . وقد خالفت أوروبا ذلك النظام الفطري ، فجعلت المرأة تقدم مالا ، هي ، فكانت الفتاة تسعى إليه ، فتتعثر فطرتها ، وتنحرف عن الفضيلة ، وتقع في حمأة الرذيلة قبل أن تصل إلى المال الذي تعده لخطيبها ، فكان ذلك جزاء كل جماعة خالفت فطرة الله التي فطر الناس عليها .
هذا هو الجواب عن السؤال الأول ، أما الجواب عن السؤال الثاني ، وهو يتعلق بالسبب في وجوب النصف بدل الجميع عند الطلاق قبل الدخول ، فنقول:إن إعطاء نصف المهر أو المتعة من قبيل التسريح بإحسان كما أشرنا من قبل ، وقد قال تعالى:[ وسرحوهن سراحا جميلا 49] ( الأحزاب ) وإن التفرقة قبل الدخول تجرح إحساس المرأة إن لم تكن بطلبها ، فأوجب سبحانه نصف المهر ، ثم حث الرجل على إعطائها النصف الثاني فضلا وسماحا .
و ذلك شرع الله ، وهديه الحكيم ، و إرشاده السامي ، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق .