[ و للمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ( 241 )] بينت الآية السابقة حق المتوفى عنها زوجها من متاع أي انتفاع بالسكن بعد وفاته على ألا تخرج من بيت الزوجية ، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى حق المطلقات .
و المتاع في أصل معناه ما ينتفع به ، وهو المعنى في قوله تعالى:[ وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج] وقد بينا ذلك فيما سبق من قول ، وقد ذكرنا أيضا من قبل أن المتاع انتفاع ممتد الوقت ، وهو على هذا التوجيه قد يراد منه النفقة أمدا طال أو قصر ؛ لأن النفقة ، وهي الإدرار على الحي بما به حياته وبقاؤه ، انتفاع ممتد في الزمان ، وقد يراد المتعة أي إعطاء شيء من نحو الثياب ينتفع به أمدا ممتدا .
والمتاع في هذه الآية ما المراد به ؟ أهو المتعة التي ذكرناها في قوله تعالى:[ و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين 236] ( البقرة ) ؟ أم المراد الانتفاع بالنفقة في أثناء العدة ؟
ذكر الفخر الرازي أن معنى كلمة متاع للمفسرين فيها قولان:
أحدهما:إن المراد بالمتاع هو المتعة ، وهو ما يعطيه المطلق للمطلقة لها من نصف المهر ، أو كسوة أو نحو ذلك من كل عطاء غير ممنون لمطلقته ليكون التسريح بإحسان .
و القول الثاني:المراد به النفقة التي تكون للمطلقة في العدة .
و إن القول الأول قد خاض تحت ظله الفقهاء كل يريد أن يخرج الآية على مقتضى مذهبه ، ومنهم من أطلق نصها وجعلها على عمومه ، فأبو ثور والشافعي في أحد قوليه قد أخذا بعموم الآية الكريمة ، وقررا أن لكل مطلقة متعة واجبة ، فإنها قد وثق الوجوب فيها بقوله تعالى:[ حقا على المتقين] ولا يوجد تعبير يوثق الوجوب كقوله تعالى:[ حقا على المتقين] ، لأن الوجوب فيه قد تأكد بأنه من موجبات التقوى التي يتقى بها العذاب ، وبالتعبير بعلى التي تفيد الإلزام ، وبكلمة "حقا"وهي مصدر حذف فعله ، وهو يدل على تقرير الأمر وتثبيته .
و لقد اتبع هذان الإمامان في ذلك القول الزهري وسعيد بن جبير وغيرهما .
و قال مالك قريبا من ذلك ، وهو أن المتعة تكون واجبة لكل مطلقة إلا المطلقة المسمى لها مهر قبل الدخولبها ، فقد جاء في المدونة في إرخاء الستور:جعل الله المتعة لكل مطلقة بهذه الآية ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخلبها ، فأخرجها من المتعة .
و في قول آخر للشافعي:إن هذه الآية خاصة بغير المدخول بها التي لم يسم لها مهرا ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه في المتعة الواجبة ، وقد قال الطبري في ذلك إن الآية الأولى ، وهي:[ و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين 236] ( البقرة ):فهم بعض الناس منها أن المتعة لمن لم يسم لها مهرا ولم يدخل بها ، من الإحسان غير الواجب وليست واجبة ، فجاءت هذه الآية صريحة في الوجوب .
و على ذلك الرأي تكون هذه الآية عامة في لفظها أريد بها الخصوص في معناها .
هذه هي التخريجات الفقهية على تفسير المتاع بأنه المتعة ، وقد رأيت اضطراب أقوال الفقهاء بشأنها واختلافهم في معناها ، وقد ادعى بعضهم أن هذه الآية منسوخة بالآية السابقة:[ و متعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين 236] ( البقرة ) .
أما القول الثاني وهو تفسير المتاع بالنفقة فالذين قالوه أقل عددا ، ولكنه أكثر اتساقا ، وأبعد عن كل معاني التأويل ، وقد قال فيه الفخر الرازي:
والقول الثاني بالمتاع النفقة ، والنفقة قد تسمى متاعا ، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى .
و نحن نوافق الرازي على أن ذلك التفسير أولى ؛ لأنه أولا يندفع به التكرار ، وتندفع به ثانيا دعوى التخصيص ودعوى النسخ ، ويندفع به الاضطراب الكثير في تحرير معنى الآية الكريمة السامية ، وأخيرا هو الذي يتسق مع ما كان للمتوفى عنها زوجها من متاع هو السكنى ، وهي إحدى شعب النفقة ، فوجبت حقا في مال المتوفى ، ولم يجب الباقي لعدم وجود من يجب عليه ، أما المطلقة فتجب لها النفقة كاملة بشعبها الثلاث السكنى والطعام والكسوة ، والله سبحانه هو العليم بمراده ، تعالى كلام الله علوا كبيرا .