/م240
ثم قال تعالى{ وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} قال الجلال:كرره ليعم الممسوسة أيضا إذ الآية السابقة في غيرها .وقد أنكر عليه الأستاذ الإمام كعادته القول بالتكرار ، قال كأن ما تقدم خاص وما هنا عام .والصواب أن كل آية من الآيات التي وردت في المطلقات وردت في نوع فيهن ، فتقدم حكم من لم يمس وقد فرض لها ، وحكم المدخول بها المفروض لها ، وبقي حكم غيرها ( وفي المذكرة المأخوذة في درسه:وبقي حكم الممسوسة سواء فرض لها أم لا ) فذكره هنا ، ولم يذكر ذلك الترتيب ، لأن القرآن ليس كتابا فنيا فيكون لكل مقصد من مقاصده باب خاص به ، وإنما هو كتاب هداية ووعظ ينتقل بالإنسان من شأن من شؤونه إلى آخر ، ويعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة ، مع التفنن في العبارة ، والتنويع في البيان ، حتى لا يمل تاليه وسامعه من المواظبة على الاهتداء .يوجز أحيانا بما يعجز كل أحد عن الإتيان بمثله إذا كان المقام يقتضي الإيجاز ، ويطنب في مقام آخر حيث ينبغي الإطناب ، وهو معجز في إطنابه كإيجازه ، لا لغو فيه ولا حشو ، ولكل مقام فيه مقال ينطبق على الحكمة ، ويعين على التدبر والتذكر .
( أقول ) إن المطلقات أربع:مطلقة مدخول بها قد فرض لها مهر فلها كل المفروض وعدتها ثلاثة قروء وفيها قوله تعالى{ ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا} ( البقرة:229 ) الآية وتقدم تفسيرها .وفي معناها قوله تعالى في سورة النساء{ وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} ( النساء:20 ) ومطلقة غير مدخول بها ولا مفروض لها ، فيجب لها المتعة بحسب إيسار المطلق ولا مهر لها ، وفيها قوله تعالى:{ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} ( البقرة:236 ) الآية .وقد سبق تفسيرها ولا عدة عليها لآية الأحزاب التي ذكرناها في تفسيرها استشهادا .ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها فلها نصف المهر المفروض وفيها قوله تعالى{ وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} ( البقرة:237 ) وتقدم تفسيره ولا عدة عليها أيضا ، ومطلقة مدخول بها غير مفروضة لها ، قالوا ولها مهر مثلها بلا خلاف .وذكر بعضهم أن قوله تعالى في سورة النساء:{ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة} ( النساء:24 ) معناه فأعطوهن مهورهن بالفرض والتقدير إذا كان غير مسمى ، أي والعمدة في التقدير مساواتها بأمثالها على الأقل ، ولم يأمرنا تعالى بالتمتيع عند ذكر نوع من المطلقات إلا غير الممسوسات مطلقا كما في آية الأحزاب أو مقيد بقوله{ أو يفرضوا لهن فريضة} ( البقرة:236 ) كما تقدم في الآية المشار إليها آنفا .
ثم ختم الله تعالى هذه الأحكام المسرودة هنا بقوله{ وللمطلقات متاع} الخ فزعم بعضهم أن المراد المطلقات المعهودات اللواتي سبق الأمر بتمتيعهن ، واستدلوا بما رواه ابن جرير عن ابن زيد قال:لما نزلت{ ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين} ( البقرة:236 ) قال رجل إن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فأنزل الله هذه الآية .وفسروا المتقين بمتقي الكفر ، وليست هذه الرواية مما يحتج به ، وقد قدمنا أن ذكر المحسنين هناك لا يدل على التخيير .وقال بعضهم إن هذا حكم عام فتجب المتعة لكل مطلقة .ولا تكرار على هذا مع الآية الآمرة بتمتيع من لم تمس ولم يفرض لها ، لأن هذه الآية مسوقة لحكم هذه المتعة من غير تخصيص ولا تقييد بكونها تختلف باختلاف حال الرجال في الإيسار ، وتلك سبقت لبيان نفي الجناح عمن طلق من لم يمسها ولم يفرض لها ، وجاء في السياق أنه يجب لها تمتيع حسن بحسب وسع المطلق لما تقدم بيانه في تفسيرها .
فعلى هذا تكون المتعة مشروعة لكل مطلقة ، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري والشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق واستدلوا بعموم هذه الآية وبقوله تعالى في سورة الأحزاب{ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} ( الأحزاب:28 ) وقد كن مدخولا بهن مفروضا لهن المهر .والقائلون بهذا منهم من يقول إنها واجبة لكل مطلقة ومنهم من يقول واجبة لمن لم تمس ولم يفرض لها مندوبة لغيرها .وحجة من قال إن التمتيع خاص بمن لم تمس ولم يفرض لها هي أنه بدل مما يجب لغيرها من نصف المهر إن فرض لها ولم تمس أو المهر المسمى أو مهر المثل إذ كانت ممسوسة .وحسبنا أن الله تعالى جعل تمتيع المطلقات حقا على المتقين ، وقد فسروه بالذين يتقون الشرك ، أو هو حق على كل مؤمن مطلقا إلا أن يثبت أما ما تستحقه من المهر يسمى متاعا في عرف القرآن فحينئذ تكون هذه الآية فذلكة لسائر الآيات ، كأنه قال لكل مطلقة متاع تمتع به ، فمنهن من متاعها المهر المسمى أو المقدر ومنهن من متاعها نصفه ومنهم من لها متاع غير محدود لأنه على حسب الاستطاعة .وأحوط الأقوال وأوسطها قول من جعل المتعة غير المهر وأوجبها لمن لا تستحق مهرا وندبها لغيرها .