)أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( البقرة:246 )
التفسير:
قوله تعالى:{ألم تر}: الخطاب هنا إما للرسول ( ص ) ؛وخطاب زعيم الأمة خطاب له ،وللأمة ؛لأنها تبع له ؛وإما أنه خطاب لكل من يتوجه له الخطاب ؛فيكون عاماً في أصل وضعه ؛الفرق بين المعنيين أن الأول عام باعتبار التبعية للمخاطب به أولاً - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ؛والثاني عام باعتبار وضعه - يعني: ألم تر أيها المخاطب ؛و{تر}: هل المراد تنظر ؛أو تسمع ؛أو تعلم ؟الفعل هنا عدِّي ب{إلى}؛وإذا عدِّي ب«إلى » تعين أن يكون من رؤية العين ؛ولو عدِّي بنفسه لأمكن أن يكون المراد بالرؤية العلم ؛فإذا كان كذلك فإنه يلزم أن يكون المعنى: ألم تر إلى شأن بني إسرائيل ؛لأن من المعلوم أننا نحن - بل والرسول صلى الله عليه وسلم - لم نشاهده ؛ويمكن أن نقول: إنها عديت ب{إلى}؛وهي بمعنى النظر ؛لأن الإخبار بها جاء من عند الله ؛وما كان من عند الله فهو كالمرئي بالعين ؛بل أشد ،وأبلغ .
والاستفهام هنا الظاهر أنه للتشويق - يعني يشوقنا أن ننظر إلى هذه القصة لنعتبر بها - ؛لأن التقرير إنما يكون في أمر كان معلوماً للمخاطب ؛فيُقَرَّر به ،كقوله تعالى:{ألم نشرح لك صدرك} [ الشرح: 1]؛وأما هذا فهو أمر ليس معلوماً للمخاطب إلا بعد أن يخبر به ؛فيكون هنا للتشويق ،مثل قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة} [ الصف: 10] ،وقوله تعالى:{هل أتاك حديث الغاشية} [ الغاشية: 1] ،وما أشبهها ؛أما لو كان يخاطب من كان عالماً بها لقلنا: إن الاستفهام للتقرير .
قوله تعالى:{الملأ من بني إسرائيل} أي الأشراف منهم ؛{من بعد موسى}: لما بين قبيلتهم ذكر زمنهم ،وأنهم بعد موسى - وهو نبي الله موسى بن عمران ( ص ) - ؛وهو أفضل أنبياء بني إسرائيل .
قوله تعالى:{إذ قالوا لنبي لهم}؛«إذ » ظرف مبني على السكون في محل نصب ؛أي حين قالوا لنبي لهم ؛وفي «نبي » قراءتان: بالهمز ،وبالياء المشددة ؛وسبق توجيههما ؛ومعنى النبوة .
إذا قال قائل: من هذا النبي ؟قلنا: إن الله سبحانه وتعالى أبهمه ؛ولو كان في معرفة اسمه فائدة لكان الله عزّ وجلّ يبيّن اسمه لنا ؛لكن ليس لنا في ذكر اسمه فائدة ؛المهم أنه نبي من الأنبياء .
قوله تعالى:{ابعث لنا ملكاً} أي مُرْ لنا بملك ،أو أقم لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ؛وكان أمرهم في ذلك الوقت فوضوي ليس عندهم ملك يدبر أمورهم ،ويدبر شؤونهم ؛والناس إذا كان ليس لهم ولي أمر صار أمرهم فوضى ،كما قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم .............
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم القوم إذا سافروا أن يؤمِّروا أحدهم عليهم{[436]} حتى لا تكون أمورهم فوضى .
قوله تعالى:{نقاتل في سبيل الله}؛«نقاتل » بالجزم جواباً للأمر «ابعث »؛وهذا يدل على عزمهم على القتال إذا بعَث إليهم ملكاً ؛وسبق معنى «في سبيل الله » ،وأن رسول الله ( ص ) فسرها بأحسن تفسير ؛وهو «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا »{[437]} .
فقال لهم نبيهم يريد أن يختبرهم ،وينظر عزيمتهم:{هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا}؛«عسيتم » فيها قراءتان: بفتح السين ،وكسرها ؛وهي هنا للتوقع ؛فيكون المعنى: هل يتوقع منكم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا ؟
وقوله تعالى:{إن كتب عليكم} جملة شرطية معترضة بين اسم «عسى » ،وخبرها ؛فاسم «عسى » الضمير: التاء ؛و{ألا تقاتلوا} خبرها ؛وجملة{إن كتب عليكم القتال} الشرطية جوابها محذوف ؛وقد نقول: إنها لا تحتاج إلى جواب لعلمه من السياق .
وقوله تعالى:{إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} ،أي إن فرض عليكم القتال ألا تقاتلوا ؛فكان جوابهم أن قالوا:{وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} .
قوله تعالى:{وما لنا ألا نقاتل}؛«أن » مصدرية ؛والمعنى: أي مانع لنا يمنعنا من القتال في سبيل الله وقد وجِد مقتضي ذلك ؛وهو قولهم:{وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}؛والإنسان إذا أُخرج من داره ،وبنيه فلا بد أن يقاتل لتحرير البلاد ،وفكّ الأسرى .
وقوله تعالى:{وقد أخرجنا ...} جملة حالية في محل نصب .
قوله تعالى:{فلما كتب عليهم القتال تولوا}: هم طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله ،ولما استثبت نبيهم منهم قالوا: إنا عازمون على ذلك ،وثابتون عليه ؛ولكن لما كتب عليهم القتال ،وفرض عليهم{تولوا} ،فصار ما توقعه نبيهم حقاً أنهم لن يقاتلوا ؛و{تولوا} أي أعرضوا عن هذا الغرض ،ولم يقوموا به .
قوله تعالى:{إلا قليلًا منهم}: «القليل » ما دون الثلث ؛لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الثلث كثير »{[438]} ؛وهي منصوبة على الاستثناء .
قوله تعالى:{والله عليم بالظالمين}؛ومقتضى علمه بهم أن يجازيهم على ظلمهم ؛والظلم هنا ليس لفعل محرم ؛ولكنه لترك واجب ؛لأن ترك الواجب كفعل المحرم ؛فيه ظلم للنفس ،ونقص من حقها .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على النظر ،والاعتبار ؛لقوله تعالى:{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} .
2 - ومنها: أن في هذه القصة عبراً لهذه الأمة ،حيث إن هؤلاء القوم الذين كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم .
3 - ومنها: تحذير هذه الأمة عن التولي عن القتال إذا كتب عليهم .
4 - ومنها: أنه لا بد للجيوش من قائد يتولى قيادتها ؛لقولهم:{ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله} .
5 - ومنها: أن مرتبة النبوة أعلى من مرتبة الملك ؛لقولهم:{ابعث لنا ملكاً} يخاطبون النبي ؛فالنبي له السلطة أن يبعث لهم ملكاً يتولى أمورهم ويدبرهم .
6 - ومنها: إذا طلب الإنسان شيئاً من غيره أن يذكر ما يشجعه على إجابة الطلب ؛لقولهم:{نقاتل في سبيل الله}؛فإن هذا يبعث النبي ويشجعه على أن يبعث لهم الملك .
7 - ومنها: الإشارة إلى الإخلاص لله سبحانه وتعالى ؛لقوله تعالى:{في سبيل الله} .
8 - ومنها: امتحان المخاطَب بما طلب فعله ،أو إيجادَه من غيره: هل يقوم بما يجب عليه نحوه ،أم لا ؛لقوله تعالى:{هل عسيتم إن كتب القتال ألا تقاتلوا} .
9 - ومنها: أن الإنسان بفطرته يكون مستعداً لقتال من قاتله ؛لقولهم:{وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}؛ولهذا تجد الجبان إذا حُصر يأتي بما عنده من الشجاعة ،ويكون عنده قوة للمدافعة .
10 - ومنها: أن من مبيحات القتال إخراج الإنسان من بلده ،وأهله ليرفع ظلم الظالمين ؛لقولهم:{وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}؛لكن لو كان إخراجهم بحق - كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في بني النضير{[439]} - فلا حق لهم في المقاتلة ،أو المطالبة - ولو أسلموا - ؛لأن الله أورث المسلمين أرضهم ،وديارهم ،وأموالهم ؛والأرض لله يورثها من يشاء من عباده ،والعاقبة للمتقين ؛قال الله تعالى:{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [ الأنبياء: 105] .
11 - ومن فوائد الآية: أن الإنسان قد يظن أنه يستطيع الصبر على ترك المحظور ،أو القيام بالمأمور ؛فإذا ابتُلي نكص ؛لقوله تعالى:{فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم} مع أنهم كانوا في الأول متشجعين على القتال .
12 - ومنها: الإشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ؛فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف »{[440]} ،وقوله ( ص ): «من سمع بالدجال فلينأ عنه ؛فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن ،فيتبعه مما يبعث به من الشبهات »{[441]} ؛ويشبه هذا أن بعض الناس ينذرون النذر وهم يظنون أنهم يوفون به ؛ثم لا يوفون به ،كما في قوله تعالى:{ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين*فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون} [ التوبة: 7 ،76] .
13 - ومن فوائد الآية: أن البلاء موكل بالمنطق ؛لأنه قال لهم:{هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} ؛فكان ما توقعه نبيهم واقعاً ؛فإنهم لما كتب عليهم القتال تولوا .
14 - ومنها: أن بعض السؤال يكون نكبة على السائل ،كما قال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} [ المائدة: 101] .
15 - ومنها: وجوب القتال دفاعاً عن النفس ؛لأنهم لما قالوا:{وقد أخرجنا} قال تعالى:{فلما كتب عليهم القتال} أي فرض عليهم ؛ليدافعوا عن أنفسهم ،ويحرروا بلادهم من عدوهم ؛وكذلك أبناءهم من السبي .
16 - ومنها: تحذير الظالم من الظلم - أيَّ ظلم كان - ؛لقوله تعالى:{والله عليم بالظالمين}؛فإن هذه الجملة تفيد الوعيد والتهديد للظالم .
17 - ومنها: تحريم الظلم لوقوع التهديد عليه .
18 - ومنها: أن ترك الواجب من الظلم ؛لقوله تعالى:{تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين} أي المتولين الذين فرض عليهم القتال ،ولم يقوموا به ؛فدل ذلك على أن الظلم ينقسم إلى قسمين: إما فعل محرم ؛وإما ترك واجب .