)مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( البقرة:245 )
التفسير:
قوله تعالى:{فيضاعفه} فيها أربع قراءات ؛الأولى: «يضاعفُه » بمدّ الضاد مع رفع الفاء ؛والثانية ؛بمدّ الضاد مع فتح الفاء ؛والثالثة: «يضَعِّفُه » حذف المد مع تشديد العين ،وضم الفاء ؛والرابعة: حذف المد مع تشديد العين ،وفتح الفاء ؛ولهذا جاء الرسم صالحاً للقراءات الأربع ؛لأن القرآن أول ما كُتب ليس فيه حركات ؛أما على قراءة فتح الفاء فوجهه أن الفاء السابقة للفعل للسببية ؛والفعل منصوب ب«أنْ » بعد الفاء السببية ؛لأنه جواب الاستفهام ؛وأما على قراءة الرفع فالفاء السابقة للفعل للاستئناف ؛والفعل مرفوع لتجرده من الناصب والجازم .
قوله تعالى:{من ذا} اسم استفهام ؛أو{من} اسم استفهام ،و{ذا} ملغاة ؛و{الذي} خبر المبتدأ ؛والمبتدأ{من}؛وهذا الاستفهام بمعنى التشويق ،والحث ؛يعني: أين الذي يقرض الله ،فليتقدم .
قوله تعالى:{يقرض الله}؛«القرض » في اللغة: القطع ؛ومنه: المقراض - وهو المقص قاطع الثياب ؛ومعنى «أقرضت فلاناً » اقتطعت له جزءاً من مالي فأعطيته إياه ؛{يقرض الله} أي يعبده ؛وسميت العبادة قرضاً للمجازاة عليها ؛ويحتمل: أن الله أراد بالإقراض إنفاق المال في سبيله ؛لأنه تعالى لما قال:{قاتلوا في سبيل الله} [ آل عمران: 167] - والقتال يكون بالنفس ،والمال - قال الله سبحانه وتعالى:{من ذا الذي يقرض الله}؛وهذا جهاد بالمال .
قوله تعالى:{فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}؛{أضعافاً} مصدر مبين للنوع ؛لأن مطلق الضعف يكون بواحدة ؛لكن إذا قال تعالى:{أضعافاً} صار أكثر من واحد ؛فيكون مصدراً مبيناً للنوع ؛وقد بيّن الله سبحانه وتعالى هذه الأضعاف بقوله تعالى:{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} [ البقرة: 261] .
قوله تعالى:{والله يقبض ويبسط}؛فيها قراءتان: بالسين ؛وبالصاد ؛و «القبض » هو التضييق ؛وهو ضد البسط ؛و «البسط » هو التوسيع ؛فهو الذي بيده القبض ،والبسط ؛ويعم كل شيء ؛فيقبض في الرزق ويبسط ؛وفي العلم ؛وفي العمر ؛وفي كل ما يتعلق في الحياة الدنيا ،وفي الحياة الآخرة .
قوله تعالى:{وإليه ترجعون}: تقديم المعمول: «إليه » له فائدتان ؛فائدة لفظية ؛وفائدة معنوية ؛أما الفائدة اللفظية: فهي توافق رؤوس الآيات ؛وأما الفائدة المعنوية: فهي الحصر - فالمرجع كله إلى الله عزّ وجلّ - ؛لا إلى غيره ،كما أن المبدأ كله من الله سبحانه وتعالى .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: الحث على الإنفاق في سبيل الله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{من ذا الذي}؛والاستفهام هنا للحث ،والتشويق .
2 - ومنها: أن الجزاء على العمل مضمون كضمان القرض لمقرضه .
3 - ومنها: ملاحظة الإخلاص بأن يكون الإنسان منفقاً ماله لله عزّ وجلّ على سبيل الإخلاص ،وطيب النفس ،والمال الحلال ،ولا يتبع إنفاقه منًّا ،ولا أذًى ؛لقوله تعالى:{قرضاً حسناً}؛فالقرض الحسن هو ما وافق الشرع بأن يكون:
أولاً: خالصاً لله ؛فإن كان رياءً وسمعة ،فليس قرضاً حسناً ؛لقوله تعالى في الحديث القدسي: «من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه »{[433]} .
ثانياً: من مال حلال ؛فإن كان من مال حرام فليس بقرض حسن ؛لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
ثالثاً: نفسه طيبة به ؛لا متكرهاً ،ولا معتقداً أنه غُرْم وضريبة ،كما يظن بعض الناس أن الزكاة ضريبة - حتى إن بعض الكُتّاب يعبرون بقولهم: ضريبة الزكاة - والعياذ بالله .
رابعاً: أن يكون في محله ؛بأن يتصدق على فقير ،أو مسكين ،أو في مصالح عامة ؛أما لو أنفقها فيما يغضب الله فإن ذلك ليس قرضاً حسناً .
خامساً: أن لا يتبع ما أنفق منًّا ولا أذًى ؛فإن أتبعه بذلك بطل ثوابه ،لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [ البقرة: 264] .
4 - ومن فوائد الآية: أن فضل الله وعطاءه واسع ؛وأن جزاءه للمحسن جزاء فضل ؛لقوله تعالى:{فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} مع أن أصل توفيقه للعمل الصالح فضل منه ؛لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفقراء الأنصار حين ذكروا له فضل الأغنياء عليهم في الصدقات ،والعتق: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء »{[434]} ؛وعلى هذا فيكون لله تعالى في توفيق العبد للعمل الصالح فضلان: فضل سابق على العمل الصالح ؛وفضل لاحق - وهو الثواب عليه أضعافاً مضاعفة - ؛وأما جزؤاه للعصاة فهو دائر بين العدل والفضل ؛إن كانت المعصية كفراً فجزاؤها عدل ؛وإن كانت دون ذلك فجزاؤها دائر بين الفضل ،والعدل ؛لقوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [ النساء: 48] .
5 - ومن فوائد الآية: تمام ربوبية الله عزّ وجلّ ،وكمالها ؛لقوله تعالى:{والله يقبضويبسط} .
6 - ومنها: الإشارة إلى أن الإنفاق ليس هو سبب الإقتار ،والفقر ؛لأن ذكر هذه الجملة بعد الحث على الإنفاق يشير إلى أن الإنفاق لا يستلزم الإعدام ،أو التضييق ؛لأن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى ؛وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما نقصت صدقة من مال »{[435]} ؛وكم من إنسان أمسك ،ولم ينفق في سبيل الله ،فسلط الله على ماله آفات في نفس المال ،كالضياع ،والاحتراق ،والسرقة ،وما أشبه ذلك ؛أو آفات تلحق هذا الرجل ببدنه ،أو بأهله يحتاج معها إلى أموال كثيرة ؛وقد يتصدق الإنسان ،وينفق ،ويوسع الله له في الرزق .
7 - ومن فوائد الآية: إثبات المعاد ،والبعث ؛لقوله تعالى:{وإليه ترجعون} .
8 - ومنها: ترهيب المرء من المخالفة ،وترغيبه في طاعة الله ؛لقوله تعالى:{وإليه ترجعون}؛لأن الإنسان إذا علم أنه راجع إلى ربه لا محالة فإنه لا بد أن يكون فاعلاً لما أُمِر به تاركاً لما نُهي عنه ؛لأنه يخاف من هذا الرجوع .