قصة طالوت وجالوت: درس في الثبات والنكوص:
وهذه قصة أخرى من القصص القرآني ،الذي أريد به التأكيد على بعض المفاهيم التربوية العامة في الحياة العملية للإنسان ،وقد أفاض المفسّرون فيها بما رووه من التفاصيل المتعلّقة بالأشخاص والأحداث والأشياء .ولكنَّنا نتبع الأسلوب القرآني في طريقة تناولنا للقصة ،فنجمل في ما أجمل ونفصل في ما فصّل فيه الحديث ،لأنَّ القضية في هذه القصةوفي غيرها من القصصهي قضية الفكرة التي توحي بالهدف ،لا السرد الذي يدفع إلى أجواء الملهاة ،فلا بُدَّ من أن نتناول منها الإنسان النموذج والحدث النموذج ،في ما نتناوله من تفاصيلها ...
إنها قصة نبيّ من أنبياء بني إسرائيل مع قومه ،ولا يهمنا معرفة اسمه ،لأنَّ ذلك لا قيمة له في ما نحن بصدده من الانفتاح على الفكرة التي نريد أن نخرج بها من الحوار القصصي في هذه القصة القرآنية .
] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى[ الذين كانوا يشعرون بالفراغ في جانب الواقع الاجتماعي من حولهم ،فقد ابتعدوا عن حركة الصراع ،وأصبحوا على هامش مواقع القوّة في النّاس ،لأنَّ الذي يربح الموقع المتقدّم ،هو الذي يقاتل الآخرين الذين يملكون السيطرة الكبيرة بين النّاس ،فيفرضون كلمتهم ورأيهم وسلطتهم على الفئات المستضعفة في المجتمعكما هو واقعهم آنذاكولهذا جاؤوا إلى نبيهم الذي أرسله اللّه إليهمفي سلسلة النبوات الرساليةليتحدّثوا معه حول المستقبل الذي يتطلّعون إليه في حركة القوّة كأصحاب رسالةٍ مفتوحةٍ على قضايا الإنسان والحياة .فقد انطلقت التوراة في عهد موسى ،لتكون قاعدة للتشريع والحكمة والحركة والقوّة ،ما يجعل القائمين عليها في موقع الامتياز الكبير على المستوى المادي والروحي .
] إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ[ اختلف المفسّرون في اسمه ،فقال بعضهم: إنه صموئيل وهو بالعربية إسماعيل ،وقيل شمعون ،وقيل يوشع وغير ذلك مما لا جدوى من الحديث فيه .] ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّه[.وقد جاء عن الإمام الصادق ( ع )كما في المجمعكان الملك في ذلك الزمان هو الذي يسير بالجنود ،والنبيّ يقيم له أمره ويثبته بالخير من عند ربه .ولعلّ هذا ما دعاهم إلى طلب تعيين الملك ،لأنَّ النبيّ لم يكن في هذا الموقع من الناحية الفعلية .وقد أعطوا حركتهم المبتغاة عنوان القتال في سبيل اللّه ،لأنَّ هذا العنوان هو الذي يمنح الصراع قدسيته ويخرجه من ماديته إلى عنوان الروح ،وهو الذي يستثير النفوس ويحوّلها إلى طاقة عظيمة منفتحة على الإيمان باللّه ومنطلقة في سبيله ،فكأنها تؤدي واجباً دينياً في الحرب الدفاعية ،لا حاجة ذاتية في الواقع .
إنَّ الظاهرفي هذه المرحلة أو في ما قبلها من مراحل النبوّة في بني إسرائيلهو توزيع الأدوار بين النبوّة والملك ،فللنبيّ دور التوجيه والتربية والدعوة إلى اللّه والإشراف على تعيين المراكز القيادية ،وللملك دور الحرب والقتال والممارسة العملية للقيادة .ولهذا لم يطلب هؤلاء القوم من نبيّهم أن يقودهم للقتال ،كما هو الحال في الإسلام عندما كان النبيّ( ص ) أو الإمام هو الذي يقود الجيوش في المعارك الكبيرة ،بل طلبوا منه أن يعيّن لهم ملكاً ،يشعر الجميع بأنَّ له حقّ الأمر ،ليكون عليهم حقّ الطاعة .
] قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ[ وكان هذا النبيّ في شك من جدية هذا الطلب ،فقال لهم: إنه يخشى أن لا يستجيبوا للقتال إذا فرضه اللّه عليهم ،] قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّه[ فأعلنوافي جوابهم لهتصميمهم على القتال] وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا[ انطلاقاً من واقع الاضطهاد الذي تعرّضوا له ،من إخراج الظالمين لهم من ديارهم وأهاليهم ،ما يجعل من قضية القتال قضية ترتبط بالذات من جهة ،وبالعقيدة من جهة أخرى .] فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[ الذين ينكصون عهدهم ...