)فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ( البقرة:249 )
التفسير:
قوله تعالى:{فلما فصل طالوت بالجنود} أي مشى بهم ،وانفصل عن مكانه ؛و «الجنود » جمع «جند » ؛وهم الجيش المقاتلون ؛وكان طالوت رجلاً ذكياً عاقلاً ؛لأن الله زاده بسطة في العلم ،والجسم ؛وكان عنده علم بأحوالهم من قبل ؛وأنه لما كُتب عليهم القتال بين لهم أن الله مبتليهم بنهر ؛والنهر هو الماء الجاري الكثير ؛فابتلاهم الله عزّ وجلّ بهذا النهر ؛أولاً: ليعلم من يصبر ،ومن لا يصبر ؛لأن الجهاد يحتاج إلى معاناة ،وصبر ؛ثانياً: ليعلم من يطيع ممن لا يطيع ؛ولهذا قال لهم الملك طالوت:{إن الله مبتليكم بنهر} أي مختبركم به .
قوله تعالى:{فمن شرب منه} أي كثيراً{فليس مني} أي فإني منه بريء ؛لأنه ليس على منهجي ؛{ومن لم يطعمه} أي لم يشرب منه شيئاً{فإنه مني} أي على طريقي ،ومنهجي ؛{إلا من اغترف غرفة بيده} أي شرب قليلاً مغترفاً بيده - لا بيديه - .
قوله تعالى:{فشربوا منه} أي شرباً كثيراً{إلا قليلاً منهم} فلم يشرب كثيراً ؛وقد قيل: إن عددهم ثمانون ألفاً ؛شرب منهم ستة وسبعون ألفاً ؛فالله أعلم .
قوله تعالى:{فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه} أي فلما تعداه طالوت ،والذين آمنوا معه ؛ولا يلزم أن يكونوا عبروا من فوقه ؛{قالوا} أي الذين جاوزوه ؛والمراد بعضهم بدليل قوله تعالى:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ...} إلخ ؛{لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} أي لا قدرة لنا ؛و «أل » للعهد الحضوري - أي: هذا اليوم - ؛يعنون به اليوم الذي شاهدوا فيه عدوهم ؛{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} أي يوقنون بذلك ؛لأن «الظن » يراد به اليقين أحياناً ،كما في قوله تعالى:{واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [ البقرة: 45 ،46] أي يوقنون به .
قوله تعالى:{كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة}:{كم} للتكثير ،أي ما أكثر ما تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة .
قوله تعالى:{بإذن الله} أي بقدره ؛{والله مع الصابرين} أي بالنصر ،والتأييد .
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: أنه ينبغي للقائد أن يتفقد جنوده ؛لقوله تعالى:{فصل طالوت بالجنود} أي مشى بهم ،وتدبر أحوالهم ،ورتبهم .
2 - ومنها: أنه يجب على القائد أن يمنع من لا يصلح للحرب سواء كان مخذلاً ،أو مرجفاً ،أو ملحداً ؛لقوله تعالى:{فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده}؛والفرق بين المخذل ،والمرجف ،أن المخذِّل هو الذي يخذل الجيش ،ويقول: ما أنتم بمنتصرين ؛والمرجف هو الذي يخوف من العدو ،فيقول: العدو أكثر عدداً ،وأقوى استعداداً ...وما أشبه ذلك .
3 - ومنها: أن من الحكمة اختيار الجند ؛ليظهر من هو أهل للقتال ،ومن ليس بأهل ؛ويشبه هذا ما يصنع اليوم ،ويسمى بالمناورات الحربية ؛فإنها عبارة عن تدريب ،واختيار للجند ،والسلاح: كيف ينفذون الخطة التي تعلَّموها ؛فيجب أن نختبر قدرة الجند على التحمل ،والثبات ،والطاعة ؛والأساليب الحربية مأخوذة من هذا ؛ولكنها متطورة حسب الزمان .
4 - ومنها: أن طالوت امتحنهم على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: من شرب من النهر كثيراً ؛فهذا قد تبرأ منه .
الوجه الثاني: من لم يشرب شيئاً ؛فهذا من طالوت - أي من جنوده المقربين - .
الوجه الثالث: من شرب منه غرفة بيده ؛فهذا لم يتبرأ منه ؛وظاهر الآية أنه مثل الوجه الثاني .
وهذا الابتلاء أولاً ليعلم به من يصبر على المشقة ممن لا يصبر ؛فهو كالترويض والتمرين على الصبر ؛ثانياً: ليعلم به من يمتثل أوامر القائد ،ومن لا يمتثل .
5 - ومن فوائد الآية: أن أكثر عباد الله لا ينفذ أمر الله ؛لقوله تعالى:{فشربوا منه إلا قليلاً منهم}؛وهذا أمر يشهد به الحال .قال الله تعالى:{وقليل من عبادي الشكور} [ سبأ: 13]؛وقال تعالى:{وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} [ الأنعام: 116]؛وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من بني آدم تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون من الألف{[444]} ؛فالطائع قليل ،والمعاند كثير .
6 - ومنها: جواز إخبار الإنسان بالواقع إذا لم يترتب عليه مفسدة ؛لأنهم قالوا:{لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}؛وقد يقال: إن هذا لا تدل عليه الآية ؛وأن فيها دليلاً على أن الجبان في ذُعر دائم ،ورعب ؛لقولهم:{لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} .
7 - ومنها: أن الإيمان موجب للصبر ،والتحمل ؛لقوله تعالى:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} .
8 - ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي عباده إما بفوات محبوب ؛أو حصول مكروه ؛ليعلم سبحانه وتعالى صبرهم ؛ولهذا نظائر ؛منها ما قصه سبحانه عن بني إسرائيل حين حرم عليهم صيد الحوت في يوم السبت ؛فكانت الحيتان تأتي يوم السبت شُرَّعاً ؛وفي غير يوم السبت لا يرون شيئاً ؛فصنعوا حيلة ؛وهي أنهم وضعوا شباكاً في يوم الجمعة ؛فإذا جاءت الحيتان يوم السبت دخلت في هذا الشباك ،ثم نشبت فيه ؛فإذا كان يوم الأحد استخرجوها منه ؛فكان في ذلك حيلة على محارم الله ؛ولهذا انتقم الله منهم ؛ووقع ذلك أيضاً للصحابة - رضوان الله عليهم - وهم في حال الإحرام: فابتلاهم الله بصيد تناله أيديهم ،ورماحهم ؛ولكنهم رضي الله عنهم امتنعوا عن ذلك ؛وهؤلاء - أعني أصحاب طالوت - ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بهذا النهر ،وكانوا عطاشاً ،فقال لهم نبيهم:{فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده} .
9 - ومن فوائد الآية: أن الله عزّ وجلّ عند الابتلاء يرحم الخلق بما يكون فيه بقاء حياتهم ؛لقوله تعالى هنا:{إلا من اغترف غرفة بيده}؛لأنهم لا بد أن يشربوا للنجاة من الموت .
10 - ومنها: الرد على الجبرية ؛لقوله تعالى:{فمن شرب} ،وقوله تعالى:{إلا من اغترف} ،حيث أضاف الفعل إليهم .
11 - ومنها: أن القليل من الناس هم الذين يصبرون عند البلوى ؛لقوله تعالى:{فشربوا منه إلا قليلاً منهم} .
12 - ومنها: أن من الناس من يكون مرجفاً ،أو مخذِّلاً ؛لقوله تعالى:{لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}؛هؤلاء مخذِّلون ؛وفي نفس الوقت أيضاً مرجفون .
13 - ومنها: أن اليقين يحمل الإنسان على الصبر ،والتحمل ،والأمل ،والرجاء ؛لقوله تعالى:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}؛مع اليقين قالوا هذا القول لغيرهم لما قال أولئك:{لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}؛فردوا عليهم .
14 - ومنها: إثبات ملاقاة الله ؛لقوله تعالى:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} ،كما قال تعالى:{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [ الانشقاق: 6] .
15 - ومنها: أن الظن يأتي في محل اليقين ؛بمعنى أنه يستعمل الظن استعمال اليقين ؛لقوله تعالى:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} .
16 - ومنها: أنه قد تغلب الفئة القليلة فئة كثيرة بإذن الله ؛وهذا قد وقع فيما سبق من الأمم ،ووقع في هذه الأمة مثل غزوة «بدر » ؛وقد تُغلَب الفئة الكثيرة ،وإن كان الحق معها ،كما في غزوة «حنين » ؛لكن لسبب .
17 - ومنها: أن الوقائع ،والحوادث لا تكون إلا بإذن الله ؛وهذا يشمل ما كان من فعله تعالى ؛وفعل مخلوقاته ؛لقوله تعالى:{بإذن الله} .
18 - ومنها: إثبات الإذن لله سبحانه وتعالى ؛وهو ينقسم إلى قسمين: إذن كوني ؛وإذن شرعي ؛ففي هذه الآية: إذن كوني ؛وفي قوله تعالى:{قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون} [ يونس: 59]: هذا شرعي ؛وفي قوله تعالى:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [ الشورى: 21] هذا شرعي أيضاً .
19 - ومنها: فضيلة الصبر ؛لقوله تعالى:{والله مع الصابرين} .
20 - ومنها: إثبات المعية لله عزّ وجلّ ؛لقوله تعالى:{والله مع الصابرين}؛فإن قلت: هذه الآية ظاهرها تخصيص معية الله بالصابرين مع أنه في آيات أخرى أثبت معيته لعموم الناس ؛فقال تعالى:{هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم} [ الحديد: 4]؛هذا عام ،وقال تعالى:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا} [ المجادلة: 7]؛فالجواب: أن هذه المعية خاصة تقتضي الإثابة ،والنصر ،والتأييد ؛وتلك معية عامة تقتضي الإحاطة بالخلق علماً ،وسمعاً ،وبصراً ،وسلطاناً ،وغير ذلك من معاني ربوبيته ؛والمعية التي أضافها الله إلى نفسه منها ما يقتضي التهديد ؛ومنها ما يقتضي التأييد ؛ومنها ما هو لبيان الإحاطة ،والشمول ؛فمثال الذي يقتضي التأييد قوله تعالى:{إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [ النحل: 128] ،وقوله تعالى لموسى ،وهارون:{إني معكما أسمع وأرى} [ طه: 46] ،وقوله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{لا تحزن إن الله معنا} [ التوبة: 40]؛ومثال الذي يقتضي التهديد قوله تعالى:{يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول} [ النساء: 108]؛ومثال ما يقتضي الإحاطة قوله تعالى:{وهو معكم أينما كنتم} [ الحديد: 4] .
فإن قلت: ما الجمع بين إثبات المعية لله عزّ وجلّ ،وإثبات العلوّ له ؟.
فالجواب: أنه لا تناقض بينهما ؛إذ لا يلزم من كونه معنا أن يكون حالًّا في الأمكنة التي نحن فيها ؛بل هو معنا وهو في السماء ،كما نقول: القمر معنا ،والقطب معنا ،والثريا معنا ،وما أشبه ذلك مع أنها في السماء .
21 - ومن فوائد الآية: الترغيب في الصبر ؛لقوله تعالى:{والله مع الصابرين}؛والصبر ثلاثة أنواع:
الأول: صبر على طاعة الله: بأن يحبس الإنسان نفسه على الطاعة ،فيقوم بها من غير ملل ،ولا ضجر .
الثاني: الصبر عن محارم الله: بأن يحبس نفسه عما حرم الله عليه من قول ،أو عمل .
الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة: بأن يحبس نفسه عن التسخط على ما يقدره الله من المصائب العامة ،والخاصة .
وأعلاها الأول ،ثم الثاني ،ثم الثالث .