[ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر] تولى طالوت إمرة بني إسرائيل ، وقيادة جيوشهم ، وتقدم بهم للانتصاف ممن أرهقوهم وأذلوهم ، فخرج بهم من هدوء الاستخذاء والاستكانة إلى ميدان الجهاد . و"فصل"معناها انفصل ، وقد قال في ذلك الزمخشري:( فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه وجاوزه ، وأصله فصل نفسه ، ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي ك "انفصل"، وقيل فصل عن البلد فصولا ، ويجوز أن يكون فصله فصلا ، وفصل فصولا ، كوقف وصد ، ونحوهما ، والمعنى انفصل عن بلده ) ويستفاد من هذا النقل أن فصل تستعمل لازمة ومتعدية عند بعض اللغويين ، وعند الأكثرين هي متعدية أجريت مجرى اللازم لكثرة حذف المفعول .
و لما خرج طالوت بجند بني إسرائيل قال لهم:إن الله مبتليكم أي مختبركم "بنهر"وهو بالفتح والسكون لغتان فيه ، والنهر:المجرى الواسع الذي يجري فيه الماء ، مأخوذ من نهر الأرض بمعنى شقها شقا واسعا .
و ما نوع الابتلاء ؟ أهو ابتلاء لمعرفة مقدار طاعة جنده ؛ لأنهم بايعوه وما أرادوا ، وقبلوا ملكه وما كادوا يفعلون ، فأراد قبل أن يخوض غمار الحرب أن يعرف من أذعن ورضي فيقاتل به ؛ لأنه يكون كنفسه ، ومن كان في قلبه ذرة من التمرد أو عدم الإذعان القلبي ، فإنه ليس له به حاجة . والنصرة في الجيش باتحاد القلوب والقوة المعنوية ، وحسن الطاعة للقيادة ، فجند قليل متحدة أهواؤهم ينتصرون بعون الله . على ذلك جمهور المفسرين .
و يصح أن يكون المراد بابتلاء الله لهم أنهم يفصل بينهم وبين أعدائهم نهر ، وقد وصلوا إليه مجهدين من العطشوالتعب ، فخشي أنهم إن مكثوا حوله ، وملئوا مزاداتهم وبطونهم واستراحوا واستجموا ، أحس بهم أعداؤهم ، فاجتازوا النهر إليهم ، وأبعدوهم عنه ، فأراد طالوت أن يأخذ عدوه بالجولة الأولى المفاجئة ، فيجتاز النهر قبل أن يحسوا به ، وإن اجتازوه صار النهر في قبضتهم يشربون منه ما شاءوا من غير حاجة إلى التزود ، وكانوا هم على الماء ، وعدوهم أسفل منه .
هذا احتمال قريب لا ينافيه نسق القرآن الكريم ، ويتحقق فيه معنى الابتلاء الشديد ؛ لأن كونهم بجوار الماء بعد جهد وعطش ، ولا يأخذون منه إلا غرفات تذهب بالعطش من غير شبع وتزود منه ، هذا بلا شك ابتلاء من الله ، ويتحقق فيه أيضا معنى الاختبار للطاعة ، وهو يتفق مع الخطط الحربية ، لأن الفجاءة في الحروب سلاح يقتل ويفرق الجمع ، ثم فيه اختبار لعزائمهم وقوة إرادتهم فوق اختبار طاعتهم .
[ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده] أي فمن شرب منه متزودا مستجما حوله مستبردا بمائه مستمتعا به مستنيما إلى الراحة بجواره [ فليس مني] أي فليس في قيادتي ، بل هو خارج على طاعتي ، وليس معنا في هذا الجهاد المتعب في أوله ، والمثمر في آخره ، [ ومن لم يطعمه] أي لم يذقه [ إلا من اغترف غرفة بيده] أي أنه لم يذق من ماء النهر إلا بقدر اغترافه بيده ما يبل عطشه ، وينقع غلته ، ويدفع حاجته العاجلة من الماء أي فمن لم ينل من ماء النهر إلا بهذا القدر [ فإنه مني] أي معي في جندي ، وهو في سلطانقيادتي ، وله معي غب النصرة وفخار الانتصار .
و الاغتراف هو الأخذ من الشيء باليد ، والغرفة مقدار الماء الذي يغترف باليد .
و هنا بحث لفظي نبه إليه الزمخشري ، وهو تقديم جواب الشرط على الاستثناء من الشرط ، فقد قال:[ و من لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده] وكان التأليف المعهود للناس أن يقال:( ومن لم يطعمه إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني ) ولكن النص السامي جاء بتقديم الجواب على مستثنى الشرط لحكمة بليغة ، وهي المسارعة إلى الحكم بالاتصال ، وإثبات أن أساس الصلة التي تربطهم ألا ينالوا من الماء ، ثم رخص لهم في الغرفة بيد لنقع الغلة ، وذلك ليقللوا ما كان في طاقتهم التقليل ؛ لأنهم إن استرسلوا في أخذ الماء لا يقفوا عند القليل ، بل ينالوا منه الكثير .
[ فشربوا منه إلا قليلا منهم] لم تكن نتيجة ذلك الامتحان الذي اختبرت فيه حكمتهم ، وطاعتهم وعزيمتهم تتفق مع رغبتهم في العزة بدل الذلة ، فلم ينظروا إلى المآل بعد الحال ، لم يصبروا على التعب الوقتي بالعطش ليفاجئوا عدوهم في عقر داره ، وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ، ولم يطيعوا قائدهم الحكيم ، والطاعة أساس الجندية ، ولم يستحصدوا بعزائمهم فلا يستنيموا إلى الراحة قبل وقتها .
و لذا قال تعالى:[ فشربوا منه إلا قليلا منهم] أي فشربوا منه وكرعوا واستراحوا حوله واستجموا قبل أن يجيء وقت الاستجمام إلا قليلا منهم ربط الله على قلوبهم ، وبذلك لم يطيعوا ولم يصبروا ، ولم يجمعوا عزمهم متحملين التعب العاجل ، في نظير النصر والظفر الآجل .
و لقد قرأ أبي والأعمش "إلا قليل "ومن المعروف أن المستثنى بعد الكلام التام الموجب يكون المستثنى منه منصوبا ، فما وجه الرفع هنا ؟ قالوا:إن معنى "فشربوا"أنهم ليسوا منه ؛ لأنه تبين الارتباط اللازم بين الشرب ، وكونهم ليسوا منه ، فقد قال تعالى:[ فمن شرب منه فليس مني] فالمعنى إذن "فليسوا منه إلا قليل منهم"فقراءة الرفع إيماء بليغ بمقتضى المنهاج العربي إلى تضمن فشربوا معنى فليس منه المصرح بها سابقا . ولقد قال في ذلك الزمخشري:"قرأ أبي والأعمش إلا قليل بالرفع ، وهذا مع ميلهم إلى المعنى ، وإعراض عن اللفظ جانبا ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلما كان معنى فشربوا منه:فلم يطيعوه ، حمل عليه ، كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم ".
و إن لذلك فائدة بلاغية هي أنه كما قلنا إيماء إلى النتيجة المقررة للشرب ، وكأنه تصريح بها ، وهي أنهم ليسوا منه وقد انقطعت الصلة بينهم وبينه ، فصاروا في ضفة من النهر مستريحين مستنيمين إلى هوى النفس ، وطالوت ومن معه قد صاروا في الضفة الأخرى ، قد فاجئوا العدو وحالوا بينه وبين الماء ، ولذا قال سبحانه من بعد:[ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده] اجتاز طالوت النهر مع الذين صبروا على العطش والتعب ، ولم ينالوا من الماء إلا ما يدفع العطش المميت . ولقد عبر سبحانه عن أولئك الصابرين الطائعين المدركين بقوله تعالى:[ والذين آمنوا معه] للإشارة إلى أن الإيمان بالله والإذعان له سبحانه هو السبب في طلبهم العزة ، وتحملهم المشاق في سبيلها ، والصبر على المتاعب لنيلها ، والطاعة لمن اصطفاه الله وليا لأمرهم ، ومدبرا لشئونهم ، وقائدا لهم في ميدان العزة والكرامة .
والضمير في قوله تعالى:[ قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده] يحتمل أن يعود على بعض الذين اجتازوا النهر ، ويحتمل أن يعود على الذين استناموا للراحة ولم يجتازوا النهر .
وعلى الأول يكون المعنى:إن الذين اجتازوا النهر ، وهم الطائعون الصابرون المعتزمون كانوا فريقين:فريق هاله العدو وكثرته ، فاعتراهم الخوف ، وقالوا:لا طاقة لنا اليوم بجالوت ( وهو قائد جيش العدو ) وجنوده ، وفريق آخر لم تأخذ فؤاده الكثيرة ولم يذهب قلبه شعاعا ، وهم الذين قال سبحانه وتعالى عنهم:[ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله] .
و كأنه على هذا التخريج يكون بنو إسرائيل مراتب ثلاثة:أولاها وأدناها:أولئك الذين ارتضوا بالعصيان وخالفوا أمر قائدهم ، والثانية:أولئك الذين اجتازوا النهر وأطاعوا ، ولكن هالتهم الكثرة الكاثرة ، وحسبوها الكارثة ، والمرتبة العليا هم أولئك الذين آمنوا بلقاء الله تعالى ، وفضلوا الباقية على الفانية ، وباعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى .
و على أن الضمير في "قالوا "يعود على الذين لم يجتازوا النهر ، يكون المعنى:إن الذين استناموا للراحة ، وآثروا العصيان تقاولوا فيما بينهم وقالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، أي أننا في حاجة إلى الراحة اليوم وإذا نلنا حظنا من الاستجمام والماء فقد يكون اللقاء . وأما الفريق الذين اجتازوا النهر ، فقد وجدوا أنفسهم قلة قليلة أمام جموع كثيرة ، وقد تخلف من إخوانهم الأكثرون ، وقعدوا في الضفة الأخرى مخالفين ، ولكنهم مطمئنون إلى نصر الله وتأييده وقد آمنوا بالآخرة فطلبوا الموت لينالوا الحياة ، كما قال الصديق خليفة رسول الله:( اطلب الموت توهب لك الحياة ) وقالوا:[ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله] .
و معنى لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده:لا قدرة لنا اليوم على ملاقاة جالوت وجنوده ، ولو بتحمل أقصى المشقة ، إذ الطاقة معناها أقصى ما يبذل من مشقة لحمل الأمر ، وإذا انتفى ذلك فمعناه أن الأمر مستحيل بالنسبة لقدرهم ، وهذا هو ما يصوره الضعف والاستخذاء ، واستمرار الذلة والضعة والهوان . و لأن القائلين لذلك القول فيهم هذه الصفات ، نرجح أن الضمير يعود على الذين لم يجتازوا النهر ورضوا بالمقام مع العصيان .
فهذا قول الذين عصوا وذلوا ، أما قول الآخرين فقد حكاه الله تعالى بقوله:[ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله] الظن هنا بمعنى العلم القطعي الجازم ؛ لأن شأن المؤمن أن يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا قاطعا جازما لا شك فيه ، وإنما عبر عن العلم اليقيني في هذا المقام بلفظ الظن بسببين:
أحدهما:أن اليوم الآخر مغيب غير محسوس .
و ثانيهما:أن الظن يتضمن معنى الرجاء ، ورجاء لقاء الله سبحانه وتعالى راضيا عن فعل العبد يدفعه إلى العمل والجهاد في سبيله ، وبيع النفس في سبيل إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى .
و وصف أولئك الثابتين الصابرين الذين أرادوا العزة فافتدوها بأنفسهم وأعظموا الفداء بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقوا الله ، بيان للباعث القوي الدافع للرضا بالفداء ، والصبر على البلاء ، وذلك لأن الإيمان بلقاء الله يجعل المرء يستهين بكل ما ينزل به في الدنيا ؛ لأنه مهما يكن مقداره ، تعب ضئيل في مقابل نعيم مقيم يوم القيامة ، ولأنه مهما يكن ما يلقاه من عنت في الدنيا لا يعد شيئا مذكورا في نظير لقاء الله تعالى راضيا عنه ، متقبلا لأعماله ، فذلك الرضوان دونه الدنيا كلها بحذافيرها .
و إذا كان المؤمن بلقاء الله المستشعر لعظمته يستهين بكل ما في الدنيا ومن فيها ، فهو مستهين بعدوه مهما تكن كثرته ، ولذلك قالوا:[ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله] الفئة:الجماعة المتعاونة المتساندة التي يفئ بعضها إلى بعض ، ويظاهر بعضها بعضا ، والمعنى كم من مرات كثيرة غلبت جماعة متعاضدة قليلة العدد جماعة كثيرة العدد ، لقوة إيمانهم بالله وبحقهم .
و في هذا إشارة إلى أن من أسباب النصر ألا يؤخذ الخصم بقوة خصمه بأكثر من أن يستعد له ويأخذ الأهبة للقائه ، أما إن هاله أمره فإنه لا محالة مغلوب ؛ لأن القوة المعنوية ذخيرة فوق العدة والسلاح ، ولا تكون القوة المعنوية لقوم يرهبون لقاء عدو الله وعدوهم ، بعد أن اتخذوا الأهبة ، واختار الله سبحانه وتعالى لهم القيادة الرشيدة ، ذات الرأي السديد ، والمنهج الحميد .
[ والله مع الصابرين] ختم الله سبحانه وتعالى الآيات التي تفيد الاستعداد للقتال بتهيئة النفوس ، واتخاذ سلاح المفاجأة أول سلاح يرفع ضد الأعداءببيان سلاح آخر هو أمضى الأسلحة التي تغالب الزمان ، وتناضل الحدثان ، وهو الصبر ، فقال تعالى:[ والله مع الصابرين] أي أن على الذين يتقدمون للجهاد في سبيل الله أن يدرعوا الصبر ، ويجعلوه أخص صفاتهم ، ويستمسكوا به ، فإن الله سبحانه وتعالى مع الصابرين . والمصاحبة الكريمة التي أفاض الله بها على الصابرين فقال:[ والله مع الصابرين] هي مصاحبة النصرة والتأييد والتوفيق . فالله جل جلاله ، وعظمت قدرته مع الصابرين ، ومن كان الله معه فهو منصور ، فإنه هو نعم المولى ونعم النصير .