ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ( 250 )
اجتاز المؤمنون الصابرون النهر ، وجمعوا عزائمهم في عزيمة واحدة ، وقدروا النصر مع قلتهم وكثرة عدوهم ؛ لأن الإيمان بالحق وحده عدة هي أقوى عدد الجهاد ، وبهذه النفوس المؤمنة المتوثبة المفوضة أمورها لرب العالمين ، تقدموا للقاء الأعداء ، ولم يغرهم بالله الغرور ، ولم يفرضوا أن قوة البدن والسلاح والشعور بالحق وحدها كافية للنصر بل لابد من تأييد الله ، ولذا قال سبحانه في وصفهم في ميدان القتال:
[ و لما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين 250] أي أنهم خرجوا إلى الأرض الفضاء المتسعة التي تتلاقى فيها القوى المناضلة . "فبرزوا"معناها خرجوا إلى البراز ، أي الفضاء المتسع المترامي الأطراف ، وكان بروزهم وظهورهم لقوى جبار غالب ، ومعه جند مدرب تعود الانتصار في الماضي ، وأذاق بني إسرائيل من الذل أكؤسا ، ذلك هو جالوت وجنوده .
و ذكره بالاسم ومعه جنوده للإشعار بأن المؤمنين لاقوا جماعة موحدة منظمة ، لها فوق كثرة العدو والعدد قوة النظام وتوحيد القيادة وقوة الانتصار في الماضي والغلب عليهم . ولكن التعبير يشعر مع ذلك بأمر آخر قد يكون من أسباب الضعف مع هذه القوة وهو أنهم جند لشخص واحد ، يعملون لغايته بمصلحته وسلطانه ، بل شهواته ورغباته ، فهم لا يعملون لأنفسهم وجماعتهم ، بل يعملون لملكهم ، وكأنهم مع دربتهم وقوتهم وغلبهم مسخرون لإرادة شخص وهواه ، وذلك من أسباب ضعف الإرادات ، وعدم الصبر عند الشدائد ، وهكذا حكم الواحد المستبد ، يحمل في داخله دائما عوامل ضعفه مهما يكن فيه من توحيد وتنظيم للقوى وجمع للقيادة ، وذلك يكون إذا كان حكم الفرد صالحا ، ولم يكن فاسدا غاشما وطغيانا آثما .
عندما التقى المؤمنون الصابرون من بني إسرائيل بعدوهم ، هالهم أمره ، وهالهم أمر قائده ، ولكنهم كانوا مستولين على قلوبهم ، مؤمنين بالنصر أن أخلصوا في أمرهم ، وشروا أنفسهم لربهم ، ولذلك اتجهوا إليه بعد أن أخذوا الأهبة ، فدعوه ضارعين بثلاث عبارات مفوضة تفيد إدراك أسباب النصر:
أما الدعاء الأول فهو:[ قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا] يقال أفرغ الإناء:صب ما فيه من ماء ، وأفرغ الدلو على نفسه:صب ما فيه من ماء على نفسه ، فمعنى أفرغ علينا:أفض علينا صبرا يعمنا في ظاهر جمعنا ، وفي خاصة نفوسنا . فالتعبير ب "أفرغ علينا صبرا "فيه استعارة تمثيلية شبه فيه حالهم والله سبحانه وتعالى يفيض عليهم بالصبر يظهر في جماعتهم مجتمعة وفي الأفراد منفردين بحال الماء يفرغ على الجسم فيعبه كله ، يعم ظاهره ويتسرب إلى باطنه ، فيلقي في القلوب بردا وسلاما ، وهدوءا واطمئنانا .
و صدروا الدعاء بالنداء "ربنا "أي خالقنا ومنشئنا ومربينا ومميتنا ، وفي ذلك إشعار بأنهم دعوا مجيبا ، وضرعوا إلى قادر غالب ، وإلى منشئ موجد ، فهو قادر على أن يأويهم بالصبر ، ويغنيهم به عن نقص العدد .
و ابتدءوا بالدعاء بالصبر ، لأن الصبر هو عدة القتال الأولى ، وهو ذخيرة المؤمنين وبه ضبط النفس فلا تفزع ، وبه يجتمع قلب الشجاع فلا يجزع . والانتصار في القتال بصبر ساعة ، والصبر عند اللقاء الأول هو الذي تتبدد به قوى العدو مهما تكاثرت ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الصبر عند الصدمة الأولى "{[354]} .
و الدعاء الثاني الذي ضرعوا إلى ربهم فيه قولهم:[ وثبت أقدامنا] ، وهذا كناية عن أن يمنحهم سبحانه وتعالى الثبات في الزحف وعدم الفرار في النزال ، فمعنى:[ وثبت أقدامنا] ، أي ثبتنا ، ومكنا من عدونا ، ولا تمكن عدونا منا ، ولا تجعل للفرار سبيلا إلى قلوبنا ، فالتعبير بقوله:[ وثبت أقدامنا] ، تعبير بالجزء وإرادة الكل ؛ لأن الأقدام هي التي يكون بها الفرار ، فتثبيتها إبعاد للفرار بثبات أداته وعدم تحركها إلا إلى الأمام ، وأن الثبات مظهر الصبر ،و ذريعة النصر بل مظهر القوة ، وعنده تتحطم قوى العدو ، وتتفرق كلمته إذا لم يكن محاربا في سبيل حق ، بل كان يقيم الظلم ويؤيد الباطل .
و الدعاء الثالث ، وهو قولهم:[ وانصرنا على القوم الكافرين] وإن إجابة هذا الدعاء هو تحقيق لثمرة الصبر والثبات ، وكان الدعاء بتحقيقه للإشارة إلى أن الأمور كلها بيد الله ، وإن أولئك المؤمنين الصابرين الثابتين كانوا يأخذون بالأسباب ، ثم يفوضون الأمور إلى الله مسبب الأسباب معتقدين أنه مهما يتحقق السبب ولا تكون المعونة الإلهية ، والتوفيق الرباني ، والتأييد من القوي الجبار ، فلن يكون الانتصار ، وأن الجيش القوي مهما يكن عنده من صبر وثبات يجب أن يؤمن بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم القوي الغالب على كل شيء . وقد رأينا في العصور الحديثة قادة عظاما يأخذون بالأسباب ثم ينهزمون ، مع أن تحت سلطانهم جنودا مدربين طائعين صابرين ولكنهم لم يقولوا:المستقبل بيد الله ، بل قالوا:المستقبل بأيدينا ، فكف الله أيديهم عن الناس ، وكانوا عبرة المعتبرين .