علم من السياق أن الغرض الأول من طلب القوم نصب الملك عليهم هو أن يتولى قيادتهم للقتال في سبيل الله ويثأر من أولئك الوثنيين الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم ، فكان المتوقع بعد بيان نصب الملك أن يذكر ما كان من شأنه في القتال وذلك ما بينه تعالى ذكره بقوله:{ فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده} .
فصَلَ بالجنود:انفصل بهم من مقامهم وقادهم لقتال أعدائهم ، وأصله:فصل نفسه عنه مصاحبا لهم ، والجنود جمع جند بالضم وهو العسكر وأصله الأرض الغليظة ذات الحجارة ثم قيل لكل مجتمع قوي جند .والشرب تناول المائع بالفم وابتلاعه ، وطَعِمَ الشيءَ من غذاء وشراب:ذاقه ، قال الشاعر:
وإن شئت لم أطعم نقاحا ولا بردا{[240]}
والغرفة بالفتح المرة من غرف الشيء إذا رفعه من محله وتناوله وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والحجازيون .والغرفة بالضم ما يغترف وبها قرأ ابن عامر والكوفيون .
لما كان بنو إسرائيل من قبل كارهين لملك طالوت عليهم ثم أذعنوا من بعد وكان إذعان الجميع ورضاهم مما لا يمكن العلم به إلا بالاختبار والابتلاء أراد الله أن يبتلي هذا القائد جنده ليعلم المطيع والعاصي والراضي والساخط ، فيختار المطيع الذي يرجى بلاؤه في القتال ، وثباته في معامع النزال ، وينفي من يظهر عصيانه ، ويخشى في الوغى خذلانه ، فإن طاعة الجيش للقائد وثقته به من شروط الظفر ، وأحوج القواد إلى اختبار الجيش من ولي على قوم وهم له كارهون ، أو كان فيهم من يكرهه ، فإذا وجد في الجيش من ليس متحدا معه يخشى أن يوضعوا خلاله يبغونه الفتنة ويسومونه الفشل ، أخبر طالوت جنوده بأن سيمرون على نهر يمتحنهم به بإذن الله ، فمن شرب منه فلا يعد من أشياعه المتحدين معه في أمر القتال إلا أن يكون ما يشربه قليلا وهو غرفة تؤخذ باليد ، فإن هذا مما يتسامح فيه ولا يراه مانعا من الاتحاد به والاعتصام بحبله ، ومن لم يطعمه أي يذقه بالمرة فإنه منه وهو الذي يركن إليه ويوثق به تمام الثقة .
فالابتلاء سيكون على ثلاث مراتب:مرتبة من يشرب فيروى لا يبالي بالأمر وحكمه أن يتبرأ منه ، ومرتبة من يأخذ بيده غرفة يبل بها ريقه وهو مقبول في الجملة ، ومرتبة من لا يذوقه البتة وهو الولي النصير الذي يوثق باتحاده ، ويعول على جهاده .
قال تعالى:{ فشربوا منه إلا قليلا منهم} ذلك أن القوم كانوا قد فسد بأسهم وتزلزل إيمانهم ، واعتادوا العصيان فسهل عليهم عصيانهم ، وشق عليهم مخالفة الشهوة وإن كان فيها هوانهم ، ولم يبق فيهم من أهل الصدق في الإيمان والغيرة على الملة والأمة إلا نفر قليل{ وقليل من عبادي الشكور} ( سبأ:13 ) والعدد القليل من أهل العزائم ، يفعل ما لا يفعل الكثير من ذوي المآثم ، كما يعلم من قوله تعالى:{ فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه} أي فلما جاوز النهر طالوت هو والذين آمنوا معه{ قالوا} أي الجنود وهم أولئك الذين شربوا منه إلا قليلا منهم{ لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} الطاقة أدنى درجات القوة كما تقدم في تفسير آية الصيام ، وجالوت هو أشهر أبطال أعدائهم الفلسطينيين وعرَّبَهُ النصارى الذين ترجموا سفر صموئيل الذي فيه القصة"جليات "ولا اعتداد بتعريبهم .والعبارة تشعر بأن جنود الفلسطينيين كانوا أكثر من الإسرائيليين .أي قال جمهور الجنود ليس لنا أدنى شيء من جنس الطاقة بلقاء جالوت وجنوده .
{ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} وهؤلاء الذين يظنون أنهم ملاقوا الله في الآخرة هو الذين آمنوا وجاوزوا لأنه تعالى لم يذكرهم وظنوا أن القولين من المؤمنين الذين جاوزوا النهر قال ضعافهم لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده:قال أقويائهم:كم فئة قليلة الخ .ثم اشتد بعضهم بعزيمة بعض وكأن من أمر انتصارهم ما يأتي في الآية التي بعده هذه ، والعبارة لا تدل على أن الذين شربوا من النهر لم يجاوزوه وإنما خص بالذكر الذين لم يشربوا لأنهم لم يتخلفوا عن طالوت لأجل الشرب ، فهم الذين جاوزوه معه مقترنين وهم الذين يعتدهم منه ويتبرأ من المتخلفين كما علم من قوله في الابتلاء .
سياق الكلام فيمن فصل بهم من الجنود وابتلوا بالنهر .وقد قال فيهم إنهم شربوا منه إلا قليلا ، ثم أعلمنا أن فريقا منم وصفهم بالمؤمنين جاوزوا النهر مع طالوت فعلمنا أنهم هم الذين أطاعوا ولم يشربوا ، ثم أخبرنا بقولين يصلح أحدهما لمعارضة الآخر ورده ( الأول ) أسنده إلى ضمير الجماعة المحكي عنهم الذي قال فيهم إنهم شربوا منه إلا قليلا منهم ، ومثله يصدر ممن خالف القائد وجبن عن القتال ، و( الثاني ) أسنده إلى الذين يظنون أنهم ملاقو الله وهو ينطبق على الذين أطاعوا القائد واتحدوا معه فلم يعصوا ويتفق مع وصف الإيمان الذي سبقه ، فعلمنا أن الجميع جاوزوا النهر وأن هذين القولين كانا بعد مجاوزته ، فإن القوم افترقوا عند النهر فسبق من لم يشرب والتف حول القائد وجاوزوا النهر معه ، وتخلف الآخرون قليلا للشرب والارتفاق بالماء ثم جاوزوا ولحقوا بالآخرين كما علم من محاورتهم معهم بما ظهر به أثر ما في نفس كل فريق منهما على لسانه .
ومن بديع إيجاز القرآن أن يحذف شيء ويأتي في السياق بما يدل عليه ، وأن يذكر القوم بوصف غير ما دل عليه الكلام أو يجعله في مكان الضمير لإفادة أن هذا الوصف المذكور هو سبب في الفعل أو الوصف الذي سيق الكلام لتقريره ، كما وصف الذين لم يشربوا بالإيمان مرة وباعتقاد لقاء الله تعالى مرة أخرى ، فأعلمنا أن هذا الإيمان والاعتقاد هما سبب طاعة القائد وترك الشرك ، وسبب الشجاعة والإقدام على لقاء العدو الذي يفوقهم عددا .
هذا ما ظهر لي في بيان هذه العبارة ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) قال:لما جاوزه هو والذين آمنوا معه قال الذين شربوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده:( قال ابن جرير ):أولى القولين في ذلك بالصواب ما روي من ابن عباس وقاله السدي وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا غرفة ، والكافر الذي شرب منه الكثير ، ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت ولقائه وانخذل عن أهل الشرك والنفاق الخ .وفيه ذكر قول كل من الفريقين .ووسم من يقول بأنه لم يجاوز مع طالوت النهر إلا أهل الإيمان بالغفلة ورد عليه قوله .
وفي كتب اليهود أن الابتلاء بترك شرب الماء كان على يد جدعون قبل قصة طالوت ، ويوردون ذلك لما لا يليق بالله تعالى ولكنه يوافق ما بنيت عليه حوادث تاريخهم من كونها كلها عجائب وخوارق عادات لا شيء منها مبني على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري .ففي الفصل السابع من سفر القضاة ما نصه:
"وقال الرب لجدعون إن الشعب الذي معك كثير علي لأدفع المديانيين بيدهم لئلا يفتخر علي إسرائيل قائلا يدي خلصتني .والآن ناد في آذان الشعب قائلا من كان خائفا ومرتعدا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد ، فرجع من الشعب اثنان وعشرون ألفا وبقي عشرة آلاف ، وقال الرب لجدعون لم يزل الشعب كثيرا ، أنزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك ويكون أن الذي أقول لك عنه هذا يذهب معك فهو يذهب معك ، وكل من أقول عنه لا يذهب معك فهو لا يذهب ، فنزل بالشعب إلى الماء ، وقال الرب لجدعون كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده وكذا كل من جثا على ركبتيه للشرب .كان عدد الذين ولغوا بيدهم إلى فمهم ثلاثمائة رجل ، وأما باقي الشعب جميعا فجثوا على ركبهم لشرب الماء:فقال الرب لجدعون بالثلاثمائة رجل الذين ولغوا أخلصكم وأدفع المديانيين ليدك .وأما سائر الشعب فليذهبوا كل واحد إلى مكانه "اه .
وقد علمت أن القوم خلطوا في تاريخهم ، وأن أكثره لا يعرف كاتبوه ومنه سفر صموئيل الذي فيه قصة طالوت ، وعبارته تدل على أنه كتب بعد حدوث وقائعه ، فإن الكاتب يذكر بعض الأشياء ويقول إنها لا تزال إلى الآن كأن الزمن كان كافيا لأن تندس فيه جميع الرسوم والمعالم التي عهدت عند وقوع تلك الوقائع وهم لا يعرفون كاتبه ، وإننا نرى المؤرخين في زمامنا يغلطون بما يقع في عهدهم غلطا أبعد من هذا الغلط في إسناد الشيء إلى غير فاعله وتقديمه أو تأخيره عن زمنه ، وكما فات مؤرخي بني إسرائيل تحرير الوقائع والحوادث بالتدقيق ، فاتهم ما فيها من العبر والحكم ، فأين ما نقلناه في تفسير هذه القصة عنهم مما تجده في عبارة القرآن من صنوف العبرة ؟ فالحق ما قاله الله تعالى في مسألة النهر وغيرها ، ولا يعتبر ما خالفه من أقوال سائر الكتب معارضا له فيحتاج إلى التوفيق أو الجواب كما تقدم في مقدمة تفسير هذه القصة والله أعلم وأحكم .
/خ252