{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} إنما أداة حصر تفيد إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه ،أي ما المؤمنون إلا هؤلاء ،والمراد: المؤمنون حقًّا الذين تم إيمانهم إلا هؤلاء الذين آمنوا بالله ورسوله ،آمنوا أقروا إقراراً مستلزماً للقبول والإذعان ،وليس مجرد الإقرار كافياً ،بل لابد من قبول وإذعان ،والدليل على أن مجرد الإقرار ليس بكاف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن عمه أبي طالب أنه في النار ،وذلك مع أنه مؤمن بالرسول عليه الصلاة والسلام ،مصدق به ،يقول في لاميته المشهورة:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
ويقول عن دين الرسول:
ولقد علمت أن دين محمد خير أديان البرية دينا
لكنه والعياذ بالله لم يقبل هذا الدين ،ولم يذعن له ،وكان آخر ما قال: إنه على الشرك على ملة عبدالمطلب،فالذين آمنوا بالله ورسوله ،هم الذين أقروا إقراراً تامًّا بما يستحق الله عز وجل ،وبما يستحق الرسول عليه الصلاة والسلام ،وقبلوا بذلك وأذعنوا ،{ثم لم يرتابوا} كلمة ،{ثم} هنا في موقع من أحسن المواقع ؛لأن ( ثم ) تدل على الترتيب والمهلة ،ثم استقروا وثبتوا على الإيمان مع طول المدة ،{لم يرتابوا}: أي لم يلحقهم شك في الإيمان بالله ورسوله .
وهنا ننبه إلى مسألة يكثر السؤال عنها في هذا الوقت - وإن كان أصلها موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام -: وهي الوساوس التي يلقيها الشيطان في قلب الإنسان ،فيلقي الشيطان في قلب الإنسان أحياناً وساوس وشكوكاً في الإيمان أو في القرآن ،أو في الرسول ،يحب الإنسان أن يمزق لحمه ،ويكسر عظمه ولا يتكلم بذلك ،فما موقف الإنسان من هذا ؟موقف الإنسان من هذا أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ،وينتهي ،ويعرض عن هذا ،ولا يفكر فيه إطلاقاً ،وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أن مثل هذه الوساوس صريح الإيمان ،أي خالص الإيمان ،وهذا إنما كان خالص الإيمان ،لأن الشيطان لا يأتي للإنسان الشاك يشككه في دينه ،وإنما يأتي لإنسان ثابت مستقر ،ليشككه في دينه ،فيفسده عليه،فالمؤمن الذي استقر الإيمان في قلبه واطمأن قلبه بالإيمان هو الذي يأتيه الشيطان ليفسد عليه ،أما من ليس بمؤمن فإن الشيطان لا يأتيه بمثل هذه الوساوس ،لأنه منته منه ،والمهم أن قوله:{ثم لم يرتابوا} يدل على أنهم ثبتوا على الإيمان ،ولو طالت المدة .
فإذا قال قائل: ما الطريقة التي توجب للإنسان ثبوت الإيمان واستقراره ؟
قلنا: أولاً: أن يتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى ،وأن هذه المخلوقات العظيمة لم تكن وليدة الصدفة ،ولم تكن وليدة بنفسها .
ثانياً: أن يتفكر في شريعة الله وكمالها .
ثالثاً: أن يتفكر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وآياته وما إلى ذلك .
رابعاً: أن يكثر من ذكر الله - عز وجل - فإنه بذكر الله تطمئن القلوب ،ويكثر من الطاعات والأعمال الصالحة ،لأن الطاعات والأعمال الصالحة تزيد في الإيمان ،كماهو مذهب أهل السنة والجماعة - رحمهم الله - .
{وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} هذا أيضاً معطوف على قوله:{آمنوا} أي هم مع إيمانهم بالله - عز وجل - ويقينهم وعدم ارتيابهم يريدون أن يصلحوا عباد الله بالجهاد في سبيل الله ،يجاهدون أعداء الله ليرجعوا إلى دين الله ويستقيموا عليه ،لا للانتقام منهم ،ولا للانتصار لأنفسهم ،ولكن ليدخلوا في دين الله - عز وجل - والجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا ،لا للانتقام ،فالقتال للانتقام ليس إلا مدافعة عن النفس ،أو أخذاً بالثأر فقط ،لكن الجهاد حقيقة هو أن يقاتل الإنسان لتكون كلمة الله هي العليا ،أما الجهاد انتصاراً للنفس ،أو دفاعاً عن النفس فقط ،فليس في سبيل الله ،لكن لاشك أن من قاتل دفاعاً عن نفسه فإنه إن قتل فهو شهيد،وإن قتله صاحبه فصاحبه في النار كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،فيمن أراد أن يأخذ مالك قال: «لا تعطه » ،قال: يا رسول الله ،أرأيت إن قاتلني ،قال: «قاتله » ،قال: أرأيت إن قتلني ؟قال: «أنت شهيد » ،قال: إن قتلته ؟قال: «فهو في النار »،فالجهاد في سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا ،هذا هو الذي حده النبي عليه الصلاة والسلام وفصَّله فصلاً قاطعاً ،{أولئك هم الصادقون} في إيمانهم وعدم ارتيابهم ،أما الذين قالوا من الأعراب آمنا ولكنهم لم يؤمنوا حقيقة ولكن أسلموا فإنهم ليسوا صادقين ،ولهذا قال الله تعالى:{قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} .