ثم قال الله تعالى:{قالت الأَعراب آمنا} الأعراب اسم جمع لأعرابي ،والأعرابي هو ساكن البادية كالبدوي تماماً ،فالأعراب افتخروا ،فقالوا: آمنا آمنا ،افتخروا بإيمانهم ،فقال الله - عز وجل -:{قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} قيل: إن هؤلاء من المنافقين ،لقول الله تعالى:{وممن حولكم من الأَعراب منافقون} والمنافق مسلم ،ولكنه ليس بمؤمن ،لأنه مستثنى في الظاهر ،إذ إن حال المنافق أنه كالمسلمين ،ولهذا لم يقتلهم النبي عليه الصلاة والسلام ،مع علمه بنفاقهم مع أنهم مسلمون ظاهراً لا يخالفون ،وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا .
وقيل: إنهم أعراب غير منافقين ،لكنهم ضعفاء الإيمان ،يمشون مع الناس في ظاهر الشرع ،لكن قلوبهم ضعيفة ،وإيمانهم ضعيف .
وعلى القول الأول: يكون قوله:{ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} أنه لم يدخل أصلاً ،وعلى الثاني: أي لما يدخل الإيمان الدخول الكامل المطلق ،ففيهم إيمان لكن لم يصل الإيمان في قلوبهم على وجه الكمال ،والقاعدة عندنا في التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين ،فإنها تحمل عليهما جميعاً إذا لم يتنافيا ،فإن تنافيا طلب المرجح .
فالأعراب الغالب عليهم أنهم لا يعرفون حدود ما أنزل الله على رسوله ،فيقولون آمنا ،فقال الله تعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:{قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} ووجه ذلك أن الإسلام في القلب ،وهو صعب ،والإسلام علامة في الجوارح ،وكل إنسان يمكن أن يعمل بجوارحه عملاً متقناً كأحسن ما يكون ،فقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج أنهم يقرءون القرآن ،وأنهم يصلون ،وأن الواحد من الصحابة يحقر صلاته عند صلاتهم ،وقراءته عند قراءتهم ،ومع ذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إنهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم »نسأل الله العافية ،وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ،وهذا يدل على أن الإسلام يستطيعه كل إنسان يمكن أن يصلي ويسجد ويقرأ ويصوم ويتصدق وقلبه خالٍ من الإيمان ،ولهذا قال:{قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وهنا التعبير يقول:{لما يدخل} ولم يقل: ( ولم يدخل ) ،قال العلماء: إذا أتت ( لما ) بدل ( لم ) كان ذلك دليلاً على قرب وقوع ما دخلت عليه ،فمثلاً إذا قلت: ( فلان لمّا يدخلها ) أي أنه قريب منها ،ومنه قوله تعالى:{بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب} أي لم يذوقوه ،ولكن قريب منه ،وهنا قال: ( لما يدخل ) أي لم يدخل الإيمان في قلوبهم ،ولكنه قريب من الدخول ،{وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعملكم شيئاً} إن أطعتم الله ورسوله بالقيام بأمره واجتناب نهيه فإنه لن ينقصكم من أعمالكم شيئاً بل سيوفرها لكم كاملة ،كما قال الله تبارك وتعالى:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجززز إلا مثلها وهم لا يظلمون} .فكل إنسان يجزى على عمله إن خيراً فخير ،وإن شرًّا فشر ،لكن رحمة الله تعالى سبقت غضبه{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} وقد يعاقب ،وقد يعفو الله عنه ،فالسيئات يمكن أن تمحى ،والحسنات لا يمكن أن تنقص ،ولهذا قال:{لا يلتكم من أعملكم شيئاً} أي لا ينقصكم .{إن الله غفور رحيم} ختم الآية بالمغفرة والرحمة ،إشارة إلى أن هؤلاء الذين قالوا إنهم آمنوا ،قريبون من المغفرة والرحمة ،لم يدخل الإيمان في قلوبهم ،ولكنه قريب من دخوله .
في هذه الآية الكريمة فرق بين الإسلام والإيمان ،وكذلك في حديث جبريل عليه السلام فرق بين الإسلام والإيمان ،ففي حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله ،وأن محمداً رسول الله ،وأن تقيم الصلاة ،وتؤتي الزكاة ،وتصوم رمضان ،وتحج البيت » .وفي الإيمان قال: «أن تؤمن بالله ،وملائكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الآخر ،والقدر خيره وشره ».ففرق بين الإسلام والإيمان ،وفي أدلة أخرى يجعل الله الإيمان هو الإسلام ،والإسلام هو الإيمان ،فهل في هذا تناقض ؟
والجواب: لا ،فإذا قرن الإسلام بالإيمان صارا شيئين ،وإذا ذكر الإسلام وحده ،أو الإيمان وحده صارا بمعنى واحد ،ولهذا نظائر في اللغة العربية كثيرة ،ولهذا قال أهل السنة والجماعة: إن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا ،يعني إذا ذُكرا في سياق واحد فهما شيئان ،وإذا ذُكر أحدهما دون الآخر فهما شيء واحد ،ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم عدد أعمالاً هي من الإسلام ،وجعلها من الإيمان فقال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة ،أعلاها قول: لا إله إلا الله » مع أنها من الإسلام ،قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله » .«وأدناها إماطة الأذى عن الطريق » .وإماطة الأذى عن الطريق من الإسلام ؛لأنها عمل ،والأعمال جوارح «والحياء شعبة من الإيمان »وهذا في القلب ،فالمهم الإيمان والإسلام إذا افترقا فهما شيء واحد ،وإن اجتمعا فهما شيئان .