{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبآئل لتعارفوا} الخطاب هنا مصدر بنداء الناس عموماً ،مع أن أول السورة وجه الخطاب فيه للذين آمنوا ،وسبب ذلك أن هذا الخطاب في هذه الآية موجه لكل إنسان ؛لأنه يقع التفاخر بالأنساب من كل إنسان ،فيقول - عز وجل -:{يا أيها الناس} ،والخطاب للمؤمن والكافر ،والبر والفاجر ،{إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} من ذكر هو آدم ،وأنثى هي حواء ،هذا هو المشهور عند علماء التفسير ،وذهب بعضهم إلى أن المقصود بالذكر والأنثى هنا الجنس ،يعني أن بني آدم خُلقوا من هذا الجنس من ذكر وأنثى ،وفي الآية دليل على أن الإنسان يتكون من أمه وأبيه أي يخلق من الأم والأب ،ولا يعارض هذا قول الله تعالى:{فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترآئب} فإذا قلنا: إن المراد بالصلب صلب الرجل ،والترائب ترائب المرأة فلا إشكال ،وإن قلنا بالقول الراجح: إن الصلب والترائب وصفان للرجل ،يعني الماء الدافق هو ماء الرجل ،أما المرأة فلا يكون ماؤها دافقاً،وعلى هذا فيكون الإنسان مخلوقاً من ماء الرجل ،لكن ماء الرجل وحده لا يكفي ،بل لابد أن يتصل بالبويضة التي يفرزها رحم المرأة فيزدوج هذا بهذا ،فيكون الإنسان مخلوقاً من الأمرين جميعاً ،أي من أبيه وأمه ،{وجعلنكم شعوباً} أي صيرناكم شعوباً{وقبآئل} فالله تعالى جعل بني آدم شعوباً وهم أصول القبائل ،وقبائل وهم ما دون الشعوب ،فمثلاً بنو تميم يعتبرون شعباً ،وأفخاذ بني تميم المتفرعون من الأصل يسمون قبائل ،{وجعلنكم شعوباً وقبآئل} هل الحكمة من هذا الجعل أن يتفاخر الناس بعضهم على بعض ،فيقول هذا الرجل: أنا من قريش ،وهذا يقول أنا من كذا ،أنا من كذا ؟ليس هذا المراد ،المراد التعارف ،أن يعرف الناس بعضهم بعضاً ،إذ لولا هذا الذي صيره الله - عز وجل - ما عرف الإنسان من أي قبيلة ،ولهذا كان من كبائر الذنوب أن ينتسب الإنسان إلى غير أبيه،لأنه إذا انتسب إلى غير أبيه غير هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها ،وهي أنهم شعوب وقبائل من أجل التعارف ،فيقال: هذا فلان ابن فلان ابن فلان إلى آخر الجد الذي كان أباً للقبيلة ،{لتعرفوا} أي: لا لتفاخروا بالأحساب والأنساب ،{إن أكرمكم عند الله أتقكم} ليس الكرم أن يكون الإنسان من القبيلة الفلانية ،أو من الشعب الفلاني ،الكرم الحقيقي النافع هو الكرم عند الله ،ويكون بالتقوى ،فكلما كان الإنسان أتقى لله كان عند الله أكرم ،فإذا أحببت أن تكون عند الله كريماً ،فعليك بتقوى الله - عز وجل - والتقوى كلها الخير ،وكلها البركة ،وكلها سعادة في الدنيا والآخرة ،{ألآ إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} .وما أكثر ما ترد على أسماعنا كلمة التقوى ،وليس لفظاً يجري على الألسن ويمر بالآذان بل يجب أن يكون لفظاً عظيماً موقراً معظماً محترماً ،ويفوت الإنسان من التقوى بقدر ما خالف فيه أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ،فإذا رأينا مثلاً إنساناً يتقدم إلى المسجد ويصلي مع الجماعة ويخشع في صلاته ،ويؤديها بكل طمأنينة ،وآخر بالعكس يصلي في بيته ويقتصر فيها على الواجب ،فالأول أتقى ،إذن فهو أكرم عند الله حتى لو كان مولى من الموالي ،والآخر من أرفع الناس نسباً ،فإن الأتقى لله هو الأكرم عند الله - عز وجل - وكل إنسان يحب أن يحظى عند السلطان في الدنيا ،ويكون أقرب الناس إليه ،فكيف لا نحب أن نكون أقرب الناس إلى الله ،وأكرمهم عنده ؟!المسألة هوى وشيطان ،وإلا لكان الأمر واضحاً ،فعليك بتقوى الله - عز وجل - لتنال الكرم عند الله ،{إن الله عليم خبير} بكل شيء ،لأنه هنا مطلق ،ولم يقيد بحال من الأحوال ،{خبير} الخبرة هي العلم ببواطن الأمور ،والعلم بالظواهر لا شك أنه صفة مدح وكمال ،لكن العلم بالبواطن أبلغ ،فيكون عليم بالظواهر ،وخبير بالبواطن ،فإذا اجتمع العلم والخبرة صار هذا أبلغ في الإحاطة ،وقد يقال إن الخبرة لها معنى زائد عن العلم ،لأن الخبير عند الناس هو العليم بالشيء الحاذق فيه ،بخلاف الإنسان الذي عنده علم فقط ،ولكن ليس عنده حذق ،فإنه لا يسمى خبيراً ،فعلى هذا يكون الخبير متضمناً لمعنى زائد على العلم .