وهذه قاعدة إسلامية في النظرة العامة إلى الناس على اختلاف ألوانهم وقومياتهم وخصوصياتهم العائلية والجغرافية ،فهي ،في الوقت الذي تؤكد فيه على جانب التنوّع في الخصوصيات العرقية واللغوية والنسبية والجغرافية ونحوها بما يستتبعه من اختلافات على مستوى الواقع ،فإنها لا تمنح أيّ نوع قيمة خاصة ترسم الفواصل بين الإنسان والآخرين ،وتقوده إلى استعدائهم أو محاولة السيطرة عليهم بأي عنوان عرقي أو قومي ،بل إن تنوّع الخصوصيات وسيلة من وسائل التعارف ، باعتبار حاجة كل فريقٍ إلى ما يملكه الفريق الآخر من خصوصيات فكرية وعملية ،ليتكامل الاثنان في صيغة إنسانية متنوّعة ،بحيث يكون التعارف غاية التنوع ،بدلاً من التحاقد والتناحر والتنازع ،ثم تكون القيمة في التقوى التي تعبِّر عن مضمون الشخصية المؤمنة العاملة في خط الصلاح ،في ساحة رضوان الله ،في ما يلتزمه الإنسان من تقوى الله .
{يَا أيّهَا النَّاسُ} الذين تختلفون في ألوانكم وقومياتكم وخصائصكم الأخرى التي تتنوع فيها ملامحكم وأشكالكم ،{إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يلتقيان في كونهما نفساً إنسانية واحدة ،ويختلفان في خصائص كل منهما الذاتية التي تتكامل وتتّحد وتتفاعل لتكوّن الإنسان الواحد الذي هو ثمرة الوحدة في التنوّع ،ما يجعل الإنسانية تمتدُّ من موقع الوحدة والتمايز الذي لا يلغي الخصوصية ولكنه يوحّدها .
{وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ} في ما يختلف فيه الناس من خصائصهم اللونية أو العرقية أو اللغوية ،أو خصائصهم النسبية من اختلاف الآباء والأجداد ،{لِتَعَارَفُواْ} ،فذلك هو الهدف الذي يجب السعي إلى اللقاء عنده والتطلع نحوه ،كغايةٍ من غايات الوجود الإنساني المتنوّع ،ما يعني البعد عن تأكيد الذاتية وما يفصل الناس عن بعضهم البعض ،والانفتاح على الطبيعة الواحدة التي تحتضن تنوع البشر أجناساً وشعوباً وقبائل ،فالتعارف أمرٌ إنساني غايته إغناء التجربة الإنسانية بالمعرفة والتجربة المتنوعة للوصول إلى التكامل الإنساني .
ولكن اختلاف أي جنس عن جنس آخر ،لا يعطيه ،ولأي سبب ،قيمة روحية تقرّبه إلى الله ،لأن الله هو خالق جميع الناس بكل خصوصياتهم ،فلا معنى لأن يقرّب إليه بعضهم لخصوصية معينة لم يصلوا إليها بجهدهم ،بل وهبهم إياها لتحقيق ما قضى به من تمايز بين البشر ،فالقيمة الروحية التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه ،هي التجسيد العملي للتقوى الفكرية والسلوكية ،لذلك ف{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} لأن التقوى هي حالة انفتاح روحي دائم على الله ،وإرادة التزام جدية بأوامره ونواهيه ،وعملية تجسيدٍ حيَ لعبودية الإنسان لربّه ،ما يجعل حركة الإنسان في وجوده سائرة في اتجاه رضوان الله ،ويوحي بالقرب الروحي منه ،بحيث يتطلع إلى الحصول على الكرامة الإلهية في مغفرة الله ورحمته ورضاه .
والتقوى بهذا المعنى ،هي الخط الذي يحقق للإنسان الإحساس الدائم بالحضور الإلهي في كل أعماله وأقواله ،بحيث يكون مشدوداً إلى الله في كل أوقاته ،ويبني له ضميره الواعي ،وشخصيته الإسلامية الملتزمة ،ويؤكد على أن القيمة الإنسانية التي تمثل أساساً للتكريم ،هي العمل في الخط المستقيم المنفتح على الله وعلى الحياة وعلى الإنسان من موقع المسؤولية ،ليكون العمل هو القيمة ،لا خصوصيات شخصية الإنسان .
{إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} في ما تلتزمون به من الحدود الشرعية في خطوط الحلال والحرام ،بحيث لا تتجاوزونها إلى غيرها مما تفرضه عصبياتكم القومية والعرقية والجغرافية ونحوها .
هل الإسلام يلغي الخصوصيات الإنسانية ؟
لكن هل يعني ذلك رفض الخصوصيات الإنسانية ؟هنا يبرز سؤال يبحث عن إجابة: ما هي نظرة الإسلام إلى الخصوصيات على المستوى القومي والعرقي أو الجغرافي ،هل يقف موقف الرفض لكلّ صفةٍ إنسانيةٍ خاصةٍ غير التقوى أم يتجاوب معها في حدود معقولة ؟
الجواب عن ذلك ،هو أنَّ إلغاء الخصوصيات لا يمثل أمراً واقعياً ،لأن الإلغاء لا يغيّر شيئاً من طبيعة المسألة الذاتية ،أو من تأثيراتها الموضوعية ،باعتبار أن تلك الخصوصيات تدخل في تكوين الذات في العمق ولا تمثل حالة هامشية ،ما يجعل وجود الخصوصيات مشكلةً غير قابلة للحل ،كما أن العمل على إلغائها يضاعفها عملياً ونفسياً .
وعلى ضوء ذلك ،فإن الإسلام يشجع على تحريك الخصوصيات في دائرتها الداخلية بجانبها الإيجابي الذي يدفع الإنسان إلى التفاعل عاطفياً وعملياً مع من يشاركونه تلك الخصوصيات والقضايا المتعلقة بها ،ولكن بشرط أن لا تتحول تلك المشاركة إلى عقدةٍ عصبيةٍ تأخذ بُعداً عدوانياً تجاه الآخرين ،بحيث تبتعد عن الخط الذي وضعه الإسلام في تشريعه للقاعدة التي تقوم عليها العلاقات وتتحرك على أساسه مشاريعها العامة والخاصة ،بحيث تصبح الخصوصيات فاصلاً يفصل كل فئة عن الناس الذين لا يشاركونها فيها .
إن الخصوصيات الإنسانية تمثل حالةً ذاتيةً ككل حالات الإنسان الذاتية الأخرى التي يتعامل معها من منطق الاعتراف بها كحقيقةٍ موضوعيةٍ في وجوده ،ولكنها لا تمثل ميزاناً للتقييم تخضع له حركة الإنسان في علاقاته ومعاملاته وأوضاعه العامة ،فميزان التقييم الحقيقي هو العمل الذي يمثل خط حياة الإنسان في كل شؤونه .وهكذا ،فإنّ الخصوصيات تمثل إطار الشخصية ،ولكن الصورة التي توضع داخل الإطار هي مقياس القيمة ،ولعلّ أبلغ تعبير عن هذه الفكرة ،ما ورد في الحديث عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) حول العصبية قال: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قومٍ آخرين ،وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ،ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم »[ 1] .
وإذا كانت الآية تعتبر التعارف عنواناً لتأكيد التنوع في خصوصياته ،فإن معناها هو أن الخصوصيات تفرض نفسها على ساحة العلاقات في الواقع ،ليعيش الجميع بعد ذلك ،أو من خلال ذلك ،في دائرة التقوى التي تتجاوز الخصوصية في واقعيتها إلى القيمة في حركتها الإيمانية .