{يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ} الذي يمثل حالة وجدانية منفعلة برؤية خالية من الوضوح ،متعلقة بحدث أو بشخص في ما تثيره من انطباعاتٍ فكريةٍ في مجال التقييم ،أو من أحكام عملية في مجال السلوك الواقعي ،أو في ساحة المسؤولية ،دون أن يكون هناك أساسٌ يقينيٌّ يقطع الشك ويبتعد عن الريب ،{إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ} لأن كثيراً من الخواطر التي تخطر بالبال ،أو التي تبدو على سطح الأحداث ،أو تتحرك بها بعض المعطيات غير الدقيقة أو غير الموثوقة ،لا تتناسب مع طبيعة واقع الحدث أو الشخص ،لأن أيّة حالةٍ غير يقينية ،لا بد من أن تحمل الكثير من الأخطاء والأوهام التي لا ترجع إلى قاعدة صواب ،ما يجعل الاعتماد عليها اعتماداً على الباطل ،وهو خطيئة في طبيعته أو في آثاره ،الأمر الذي يستلزم اجتناب كثير من الظنون التي لا يعرف فيها وجه الحق ،في ما يتميز به الحق عن الباطل ،حتى لا يقع الناس في الظنون الباطلة ،ويبقى أن يلاحق الفكر الظنّ بالبحث والاستقصاء للوصول إلى النتيجة الحاسمة التي تطلّ على الحقيقة .
وهذه القاعدة تضمن للمجتمع استقراره النفسي ،عندما يعيش أفراده الشعور بأنهم لا يواجهون الأحكام أو الانطباعات السلبية البعيدة عن الدقّة من قبل الآخرين ،وعندما يتوخى المؤمنون الدقّة في دراسة الحيثيات الموثوقة ،في ما يحكمون به على الناس أو ما يحملونه من انطباعاتٍ عنهم .
وقد جاء في الأحاديث المأثورة التأكيد على حمل المؤمن على الأحسن أمام ظنّ السوء ،وذلك للإيحاء بالجانب الإيجابي من شخصيته ،بدلاً من الاستغراق في الجانب السلبي الذي يوحي بالاتهام أو الحكم بالسوء .ولعلنا نحتاج إلى التوضيح بأن ذلك لا يعني الحكم على أساس الجانب الإيجابي الذي لا يقين فيه ،بل المقصود توجيه النظر إلى الجانب الإيجابيّ كاحتمالٍ معقولٍ يمنع عن الحكم المرتكز على الظن ،كما ورد في الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) في ما رواه عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال: «لا تظنَّنَّ بكلمةٍ خرجت من أحد سوءاً ،وأنت تجد لها في الخير محتملاً »[ 1] ،ما يوحي بأن الاحتمال الواحد في المائة لا بد من أن يوقف المؤمن عن الحكم بنسبة التسعة والتسعين بالمائة ،فلعل الحق في الواحد ،ولكن ليس معنى ذلك أن يكون المؤمن ساذجاً لا يحذر من الاحتمالات المضادة .وورد في نهج البلاغة عن الإمام علي ( عليه السلام ): «إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ،ثم أساء رجلٌ الظَّنَّ برجل لم تظهر منه حَوْبة ،فقد ظلم ،وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ،فأحسن رجل الظَّنَّ برجل ،فقد غرَّر »[ 2] .
حرمة التجسس
{وَلاَ تَجَسَّسُواْ} بالبحث عن أسرار الآخرين الخفية ،مما لا يريدون إطلاع الناس عليه من قضاياهم الذاتية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو العسكرية وغير ذلك ،لأن الله أعطى الحياة الخاصة حرمةً شرعيةً لم يجز للغير اقتحامها ،وجعل للإنسان الحق في منع غيره من الاعتداء أو التلصّص عليها بأيّة وسيلةٍ من وسائل المعرفة الظاهرة أو الخفية .
وقد يكون من الضرورة التنبيه على أن هذا المبدأ الاجتماعي لا يشمل الحالات التي تمس فيها المصلحة العليا للإسلام والمسلمين ،والتي قد تستدعي الاطلاع على بعض الأوضاع الخفية للأشخاص والمواقع والأحداث المتعلقة بالآخرين ،مما يخاف ضرره ،أو يراد نفعه ،أو يركز قاعدته ،فيجوز لوليّ أمر المسلمين اللجوء إلى هذا الأسلوب في نطاق الضرورة الأمنية والسياسية والاقتصادية ،انطلاقاً من قاعدة التزاحم بين المهمّ والأهمّ ،لتغليب المصلحة التي تقف في مستوى الأهمية القصوى على المفسدة الناشئة من التجسس ،فإن حرمة المسلمين تتقدم على حرمة الشخص أو الأشخاص في ذلك كله .
حرمة الغيبة
{وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} .
وهذه هي إحدى الحرمات الاجتماعية العامة التي يراد من خلالها تقييد حرية الإنسان في التحدث عمّا يعرفه من عيوب الآخرين الخفية ،لأن اللَّه جعل للمؤمن الحق في حماية نفسه من ذلك ،ما يجعل المعرفة في هذا المجال أمانةً شرعيةً لا يجوز له أن يحرّكها في الدائرة الإعلامية إلاّ بإذنٍ من صاحب العيب نفسه ،أو من الله سبحانه باعتبار أنه وليّ الأمر كله .
وقد يكون أساس تحريم الغيبة خاضعاً لنقاط ثلاث:
الأولى: التأثير السلبي على كرامة الإنسان المؤمن والانتقاص منه بإظهار عيوبه الخفيَّة التي لا يعرفها الناس ،في الوقت الذي لا يملك الدفاع فيه عن نفسه ،أو تفسيره بالطريقة التي قد تعطيه عذراً فيه ،أو تخرجه من دائرة العيب بسبب بعض الخصوصيات التي لا يعرفها الناس في طبيعة الموضوع ،ما يجعل من الغيبة لوناً من ألوان الحكم على الأشخاص دون إعطائهم حق الدفاع عن أنفسهم ،وبذلك يفقد هؤلاء الشعور بالاستقرار النفسي والعملي في حياتهم الخاصة ،فيبتعد المجتمع عن الحياة المتوازنة التي تتيح لأفراده الشعور بالثقة والحماية من اعتداء الآخرين على حرياتهم وحرماتهم الخاصة ،فقد يكون إفشاء أسرار العيوب أكثر خطورة من الاعتداء على المال أو نحو ذلك .
الثانية: الأثر الاجتماعي السلبي الذي يشيع العيوب في المجتمع بمستوى يخيَّل فيه للأفراد أن الجوّ مشحونٌ بالسلبيات ،ما يترك تأثيراً على الذهنية العامة بما تخلقه من انطباع عام بأن الخير قليلٌ في الحياة الإنسانية ،وأن الشر يشمل الجوّ كله ،الأمر الذي يثير في النفس الإحساس بأن الخير أمر غير واقعي في مقابل واقعية الشرّ وقوّته .
الثالثة: الأثر العدواني الذي يثيره في نفس ضحيّة الغيبة ،بسبب ما تتركه من أثر سلبي على سمعته ومركزه بين الناس ،مما يؤدّي إلى تعقيد علاقاته بمن اغتابه وإلى تعقيد العلاقات في مجتمع هذا وذاك ،وينتهي ،بالتالي ،إلى العداوة والبغضاء والتقاتل والتناحر .
وقد صوّر الأسلوب القرآني رفض هذا السلوك بطريقة تصوير تخييلية فظيعة تثير النفور في النفس بصورةٍ عفويةٍ ،باعتبارها تجسيداً حيّاً لوحشية هذا التصرف الذي يرفضه الوجدان الإنساني على مستوى الفرد والجماعة ،لإثارة النفور في الوجدان العام من ذاك السلوك{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} ونبذتموه وأخرجتموه من المجتمع لئلا تنتقل منه العدوى إلى أفراده ،ولأن درجة وحشيته لا تترك مجالاً للاعتراف بإنسانيته لفظاعة الصورة ،وأيّة صورةٍ أفظع من صورة الإنسان الذي يموت أخوه أمامه ،ثم يأتي بالسكين ليقطع من لحمه ،ويلتهمه قطعةً قطعةً ،في حالة سرورٍ وفرحٍ ؟
وقد لا تكون هذه الصورة هي ما يواجهه الناس في مسألة الغيبة بالحسّ ،ولكنها تحمل المواصفات نفسها بالإيحاء ،فإن الغائب كالميت في عجزه عن الدفاع عن نفسه ،كما أن أخوّة الإيمان كأخوّة النسب في المفهوم القرآني ،وكرامة الإنسان كلحمه ،ما يجعل الأكل من كرامته والاعتداء عليها ،كالأكل من لحمه ،بل قد يكون أكثر تأثيراً في الواقع من ذلك ،فإذا كنتم تكرهون الصورة الأولى لوحشيتها الحسيّة ،فاعملوا على أن تكرهوا الصورة الثانية في وحشيتها المعنوية .
{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} في ما تريدون أن تمارسوه منها في المستقبل ،كما أن عليكم أن تتقوا الله في ما مارستموه في الماضي ،لتتوبوا إليه توبةً تغلق ملف الماضي ،وتفتح ملف التغيير في المستقبل ،{إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} في ما جعله على نفسه من قبول التوبة من مواقع رحمته ،ومن محبته للتوّابين من خلال الروحية المخلصة لله في ذلك .
مستثنيات حرمة الغيبة
وإذا كان الله قد حرّم الغيبة للأضرار الناجمة عنها على مستوى الفرد والمجتمع ،فقد ذكر الفقهاء بعض الاستثناءات في الموارد التي قد تكون المصلحة فيها في جانب الغيبة أكثر من المفسدة التي تختزنها ،وبذلك تتدرج المسألة في هذه الموارد في دائرة الفكرة التي تثيرها الآية الكريمة الواردة في الخمر والميسر ،وهي قول الله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} ( البقرة: 219 ) ،ما يوحي بأن كل شيء كانت مفسدته أكثر من منفعته كان حراماً ،وبأن كل شيء كانت منفعته أكثر من مفسدته كان حلالاً .
ويذكر الفقهاء نماذج من ذلك ،منها: النصيحة للناس ،فقد يحتاج كثير من الأفراد والجماعات إلى النصيحة في القضايا المتصلة بالعلاقات العامة والخاصة في مسائل الزواج والمشاركة والمسؤولية ،مما قد يفرض الحاجة إلى التعرف على مواصفات الأشخاص المعنيين بالموضوع في عيوبهم الشخصية ونقاط ضعفهم العامة ،لتفادي الوقوع في المشاكل المستقبلية إذا قدّر للعلاقة أن تنشأ معهم ،ليكتشفوا العيوب بعد ذلك ،فتكون الغيبة في هذه الدائرة أسلوباً وقائياً يمنع المشاكل قبل حدوثها ،ويجنّب المجتمع من الوقوع في المهالك المرتقبة .
ومنها حالة الظلم التي يحتاج فيها المظلوم إلى الحديث عن ظالمه بعيوبه الخفية المتصلة بمسألة الظلم ،على رأي بعض ،ليرفع الظلم عن نفسه بذلك ،أو في مطلق عيوبه ،على رأي بعضٍ آخر ،ليملك فرصة الدفاع عن نفسه بالهجوم على ظالمه والضغط على سمعته في نقاط ضعفه ،ليتراجع عن ظلمه ،أو ليضغط الآخرون في ذلك ،وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى:{لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} ( النساء: 148 ) في ما استثناه من كلام المظلوم بالسوء ضد ظالمه .
ومنها: الحالات التي قد يكون فيها التستر على عيب الشخص مصدر خطر على المجتمع ،لأن العيب قد يؤثر تأثيراً سلبياً على سلامته ،كما إذا كان هذا الشخص جاسوساً خفياً للأعداء الذين يكيدون للأمة أو للشخص البريء ،ما يجعل من إخفاء صفته خطراً محققاً على سلامة الفرد أو المجتمع ،أو لأن إخفاء العيب يؤثر على نفس صاحبه ،باعتبار أن ظهوره قد يدفعه إلى إصلاحه ،وإلى تغيير موقفه أو شخصيته ،فتكون الغيبة مصدر خيرٍ له ،كما تكون مصدر سلامةٍ وخيرٍ للفرد والمجتمع في الفرضية الأولى .
وهناك نماذج أخرى مماثلة لهذه النماذج ،مذكورة في كتب الفقه ،كما أن هناك خطاً عاماً في ما ذكرناه قد يفتح القضية على أكثر من نموذج في حركة الواقع على صعيد ما يكشفه المستقبل من قضايا .ولكن هذه الاستثناءات لا تلغي القاعدةوهي حرمة الغيبةبشكل عام ،بالمستوى الذي جاءت به الأحاديث بأنها من الكبائر التي يستحق عليها المذنب دخول النار[ 3] ،ما يفرض على الإنسان أن يتقي الله في سلوكه من هذه الناحية لتقوده التقوى إلى الابتعاد عنها .
من هم الذين تحرم غيبتهم ؟
تحدّث الفقهاء عن الأشخاص الذين تحرم غيبتهم ؛هل هم كل المؤمنين بالله الملتزمين بخط الإسلام ،أم جماعة معينة منهم فقط ؟ولكننا نلاحظ أن القرآن أعطى القاعدة العامة في ثبوت الحرمة الشرعية لكل المؤمنين ،وهم كل من دخلوا في الإسلام عن قناعةٍ ،بعيداً عن الجانب المذهبي الخاص في ما يتعلق بتفاصيل العقيدة .
وإذا كانت الآية مختصة بالمسلمين المؤمنين ،فقد نستوحي أنها مسألة تتصل بالأخلاق الاجتماعية العامة ،كقيمةٍ إنسانيةٍ شاملةٍ ،باعتبارها من القضايا التي تتصل بالسلامة العامة للمجتمع ،ولا يقتصر الأمر فيها على مجموعةٍ معينةٍ ،بل تشمل الجميع ،كغيرها من الأخلاق الإنسانية التي لا تختص بموقعٍ دون موقعٍ .ولكن بعض الفقهاء يرى أن مسألة حرمة الغيبة تتصل بالاحترام الذي يكتسبه الشخص من موقع الإيمان ،ما يجعلها مرتبطةً بالعنصر الإيماني ،لا بالعنصر الإنساني ،فلا حرمة لغير المؤمن ،وبذلك ،فإنها لا تشمل الكافرين .
وهذا ما ينبغي التدقيق فيه وفي غيره من قواعد السلوك الاجتماعي في الإسلام ،لنعرف جيداً ،هل أن القضية تمثل الشمول في المعنى الإنساني أم أنها تمثل حالةً من حالات القيمة المحدودة في موقع خاص ؟
ونلاحظ في هذا التسلسل في الآية ؛من الظنّ ،إلى التجسس ،إلى الغيبة ،أن القضية خاضعة للناحية الواقعية للمسألة ،فإن الإنسان يظن بالآخرين السوء ،فيدفعه ذلك إلى التجسس الذي يطّلع من خلاله على عيوبهم ،فيقوده ذلك إلى الغيبة ،على أساس الروحية المعقّدة القلقة التي توحي بذلك كله .