/م11
والأحكام الثلاثة في الآية الثانية هي «اجتناب سوء الظن » و«التجسّس » و«الإغتياب » .
في هذه الآية يبدأ القرآن فيقول: ( يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن إثم ) .
والمراد من «كثيراً من الظن » الظنون السيّئة التي تغلب على الظنون الحسنة بين الناس لذلك عبّر عنها ب«الكثير » وإلاّ فإنّ حسن الظن لا أنّه غير ممنوع فحسب ،بل هو مستحسن كما يقول القرآن في الآية ( 12 ) من سورة النور: ( لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ) .
وممّا يلفت النظر أنّه قد نُهي عن كثير من الظنّ ،إلاّ أنّه في مقام التعليل تقول الآية: ( إنّ بعض الظن إثم ) ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير ناشئٌ من أنّ الظنون السيّئة بعضها مطابق للواقع وبعضها مخالف له ،فما خالف الواقع فهو إثم لا محالة ،ولذلك قالت الآية: ( إنّ بعض الظن إثم ) وعلى هذا فيكفي هذا البعض من الظنون الذي يكون إثماً أن نتجنّب سائر الظنون لئلا نقع في الإثم !
وهنا ينقدح هذا السؤال ،وهو أنّ الظنّ السيء أو الظن الحسن ليسا اختياريين ( غالباً ) وإنّما يكون كلٌّ منهما على أثر سلسلة من المقدّمات الخارجة عن اختيار الإنسان والتي تنعكس في ذهنه ،فكيف يصحُّ النهي عن ذلك ؟!
وفي مقام الجواب يمكن القول بأنّه:
1المراد من هذا النهي هو النهي عن ترتيب الآثار ،أي متى ما خطر الظنّ السيء في الذهن عن المسلم فلا ينبغي الاعتناء به عمليّاً ،ولا ينبغي تبديل أُسلوب التعامل معه ولا تغيير الروابط مع ذلك الطرف ،فعلى هذا الأساس فإنّ الإثم هو إعطاء الأثر وترتّبه عليه .
ولذلك نقرأ في هذا الصدد حديثاً عن نبيّ الإسلام يقول فيه: «ثلاث في المؤمن لا يستحسنّ ،وله منهنّ مخرج فمخرجه من سوء الظن ألاّ يحقّقه »{[4605]} ...إلى آخر الحديث الشريف .
2يستطيع الإنسان أن يبعد عن نفسه سوء الظن بالتفكير في المسائل المختلفة ،بأن يفكر في طرق الحمل على الصحة ،وأن يجسّد في ذهنه الاحتمالات الصحيحة الموجودة في ذلك العمل ،وهكذا يتغلّب تدريجاً على سوء الظنّ !
فبناءً على هذا ليس سوء الظن شيئاً ( ذا بال ) بحيث يخرج عن اختيار الإنسان دائماً !
لذلك فقد ورد في الروايات أنّه: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه ،ولا تظنّنّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجدُ لها في الخير محملاً »{[4606]} .
وعلى كلّ حال فإنّ هذا الأمر واحد من أكثر الأوامر والتعليمات جامعيّةً ودقّةً في مجال روابط الإنسان الإجتماعية الذي تضمن الأمن في المجتمع بشكل كامل !وسيأتي بيانه وتفصيله في فقرة البحوث .
ثمّ تذكر الآية موضوع «التجسّس » فتنهى عنه بالقول: ( ولا تجسّسوا ) !.
و«التجسّس » و«التحسّس » كلاهما بمعنى البحث والتقصّي ،إلاّ أنّ الكلمة الأُولى غالباً ما تستعمل في البحث عن الأُمور غير المطلوبة ،والكلمة الثانية على العكس حيث تستعمل في البحث عن الأُمور المطلوبة أو المحبوبة !ومنه ما ورد على لسان يعقوب في وصيته وِلْدَه !( يا بني اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه ){[4607]} .
وفي الحقيقة إنّ سوء الظن باعث على التجسّس ،والتجسس باعث على كشف الأسرار وما خفي من أمور الناس ،والإسلام لا يبيح أبداً كشف أسرار الناس !
وبتعبير آخر إنّ الإسلام يريد أن يكون الناس في حياتهم الخاصة آمنين من كل الجهات ،وبديهي أنّه لو سمح الإسلام لكلّ أحد أن يتجسّس على الآخرين فإنّ كرامة الناس وحيثيّاتهم تتعرض للزوال ،وتتولد من ذلك «حياة جهنمية » يحسّ فيها جميع أفراد المجتمع بالقلق والتمزّق !.
وبالطبع فإنّ هذا الأمر لا ينافي وجود أجهزة «مخابرات » في الحكومة الإسلامية لمواجهة المؤامرات ،ولكنّ هذا لا يعني أنّ لهذه الأجهزة حقَّ التجسّس في حياة الناس الخاصّة «كما سنبيّن ذلك بإذن الله فيما بعد » .
وأخيراً فإنّ الآية تضيف في آخر هذه الأوامر والتعليمات ما هو نتيجة الأمرين السابقين ومعلولهما فتقول: ( ولا يغتب بعضكم بعضاً ) .
وهكذا فإنّ سوء الظن هو أساس التجسس ،والتجسس يستوجب إفشاء العيوب والأسرار ،والإطلاع عليها يستوجب الغيبة ،والإسلام ينهى عن جميعها علةً ومعلولاً !
ولتقبيح هذا العمل يتناول القرآن مثلاً بليغاً يجسّد هذا الأمر فيقول: ( أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ) !.
أجل ،إنّ كرامة الأخ المسلم وسمعته كلحم جسده ،وابتذال ماء وجهه بسبب اغتيابه وإفشاء أسراره الخفية كمثل أكل لحمه .
كلمة «ميتاً » للتعبير عن أنّ الإغتياب إنّما يقع في غياب الأفراد ،فمثلهم كمثل الموتى الذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم ،وهذا الفعل أقبح ظلم يصدر عن الإنسان في حقِّ أخيه !.
أجل ،إنّ هذا التشبيه يبيّن قبح الإغتياب وإثمه العظيم .
وتولي الروايات الإسلاميةكما سيأتي بيانهاأهمية قصوى لمسألة الإغتياب ،ونادراً ما نجد من الذنوب ما فيه من الإثم إلى هذه الدرجة .
وحيث أنّه من الممكن أن يكون بعض الأفراد ملوّثين بهذه الذنوب الثلاثة ويدفعهم وجدانهم إلى التيقّظ والتنبّه فيلتفتون إلى خطئهم ،فإنّ السبيل تفتحه الآية لهم إذ تُختتم بقوله تعالى: ( واتّقوا الله إنّ الله توّاب رحيم ) .
فلابدّ أن تحيا روح التقوى والخوف من الله أوّلاً: وعلى أثر ذلك تكون التوبة والإنابة لتشملهم رحمة الله ولطفه .
/خ12