/م11
التّفسير
الإستهزاء وسوء الظنّ والغيبة والتجسّس والألقاب السيئة حرام !
حيث أنّ القرآن المجيد اهتمّ ببناء المجتمع الإسلامي على أساس المعايير الأخلاقية فإنّه بعد البحث عن وظائف المسلمين في مورد النزاع والمخاصمة بين طوائف المسلمين المختلفة بيَّن في الآيتين محل البحث قسماً من جذور هذه الإختلافات ليزول الاختلاف ( بقطعها ) ويُحسم النزاع !
ففي كلّ من الآيتين الآنفتين تعبير صريح وبليغ عن ثلاثة أُمور يمكن أن يكون كلّ منها شرارة لإشتعال الحرب والاختلاف ،إذ تقول الآية الأولى من الآيتين محل البحث أوّلاً: ( يا أيّها الذين آمنوا لا يَسخر قوم من قوم ) .
لأنّه ( عسى أن يكونوا خيراً منهم ) .
( ولا نساءٌ من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن ) .
والخطاب موجّه هنا إلى المؤمنين كافة فهو يَعمُّ الرجال والنساء وينذر الجميع أن يجتنبوا هذا الأمر القبيح ،لأنّ أساس السخرية والإستهزاء هو الإحساس بالإستعلاء والغرور والكبر وأمثال ذلك إذ كانت تبعث على كثير من الحروب الدامية على امتداد التاريخ !
وهذا الاستعلاء أو التكبّر غالباً ما يكون أساسه القيم المادية والظواهر المادية فمثلاً ،فلانٌ يرى نفسه أكثر مالاً من الآخر أو يرى نفسه أجمل من غيره أو أنّه يُعدُّ من القبيلة المشهورة والمعروفة أكثر من سواها ،وربَّما يسوقه تصوّره بأنّه أفضل من الجماعة الفلانية علماً وعبادةً ومعنوية إلى السخرية منهم ،في حين أنّ المعيار الواقعي عند الله هو «التقوى » التي تنسجم مع طهارة القلب وخلوص النيّة والتواضع والأخلاق والأدب !.
ولا يصحّ لأي أحد أن يقول أنا أفضل عند الله من سواي ،ولذلك عُدَّ تحقير الآخرين والتعالي بالنفس من أسوأ الاُمور وأقبح العيوب الأخلاقية التي يمكن أن تكون لها انعكاسات سلبية في حياة الناس جميعاً .
ثمّ تقول الآية في المرحلة الثانية: ( ولا تلمزوا أنفسكم ) .
كلمة «تلمزوا » هي من مادة «لَمْز » على زنة «طنز » ومعناها تتّبع العيوب والطعن في الآخرين ،وفسّر بعضهم الفرق بين «الهمز » و«اللمز » بأنّ «اللمز » عدّ عيوب الناس بحضورهم ،و«الهمز » ذكر عيوبهم في غيابهم ،كما قيل أنّ «اللمز » تتبّع العيوب بالعين والإشارة في حين أنّ «الهمز » هو ذكر العيوب باللسان «وسيأتي تفصيل هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الهمزة » ...
الطريف أنّ القرآن في تعبير «بأنفسكم » يُشير إلى وحدة المؤمنين وأنّهم نسيجٌ واحد ،ويبيّن هنا بأنّ جميع المؤمنين بمثابة النفس الواحدة فمن عاب غيره فإنّما عاب نفسه في الواقع !.
وتضيف الآية في المرحلة الثالثة أيضاً قائلة: ( ولا تنابزوا بالألقاب ) .
هناك الكثير من الأفراد الحمقى قديماً وحديثاً ،ماضياً وحاضراً مولعون بالتراشق بالألفاظ القبيحة ،ومن هذا المنطلق فهم يحقّرون الآخرين ويدمّرون شخصياتهم وربَّما انتقموا منهم أحياناً عن هذا الطريق ،وقد يتّفق أنّ شخصاً كان يعمل المنكرات سابقاً ،ثمّ تاب وأناب وأخلص قلبه لله ،ولكن مع ذلك نراهم يرشقونه بلقب مبتذل كاشف عن ماضيه !
الإسلام نهى عن هذه الأُمور بصراحة ومنع من إطلاق أي اسم أو لقب غير مرغوب فيه يكون مدعاةً لتحقير المسلم ...
ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ «صفية بنت حيي بن أخطب » المرأة اليهودية التي أسلمت بعد فتح خيبر وأصبحت زوجة النّبيجاءت صفية يوماً إلى النّبي وهي باكية العين فسألها النّبي عن سبب بكائها فقالت: إنّ عائشة توبّخني وتقول لي يا ابنة اليهودي ،فقال لها النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ): فلمَ لا قلت لها: أبي هارون وعمّي موسى وزوجي محمّد فكان أن نزلت هذه الآيةمحل البحث{[4604]} .
ولذلك فإنّ الآية تضيف قائلةً: ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) أي قبيح جدّاً على من دخل في سلك الإيمان أن يذكر الناس بسمات الكفر .
واحتمل بعض المفسّرين احتمالاً آخر لهذه الجملة المذكورة آنفاً وهي أنّ الله نهى المؤمنين أن يرضوا بأسماء الفسق والجاهلية لأنفسهم بسبب سخرية الناس ولتحاشي استهزائهم .
ولكن مع الالتفات إلى صدر الآية وشأن النّزول المذكور يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب .
وتُختتم الآية لمزيد التأكيد بالقول: ( ومن لم يتُبْ فأولئك هم الظالمون ) .
وأي ظلم أسوأ من أن يؤذي شخص بالكلمات اللاذعة و«اللاسعة » والتحقير واللمز قلوب المؤمنين التي هي «مركز عشق » الله وأن يطعن في شخصياتهم ويبتذل كرامتهم التي هي أساس شخصيتهم .
ماء وجوههم الذي هو أساس حياتهم الأهم .
وقلنا إنّ في كلٍّ من الآيتينمحل البحثثلاثة أحكام في مجال الأخلاق الإجتماعية .فالأحكام الثلاثة في الآية الأولى هي «عدم السخرية » و«ترك اللمز » و«ترك التنابز بالألقاب » .
/خ12