قوله تعالى:{ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} .
هذه جملة من المنكرات البغيضة ،قد نهى الله عنها بشدة وحذر من فعلها أو التلبس بها أبلغ تحذير .وذلك في كلمات بينات قوارع .كلمات باهرات عجاب تقرع بجرسها الحس ،وتثير بروعة ألفاظها الذهن والوجدان .
وأول المنكرات هذه كثرة الظن بغير حق ،وهي التهمة من دون سبب ظاهر يوجبها كالذي يتهم بشرب الخمر أو الزنا أو غير ذلك من وجوه الفواحش وليس ثمة أدلة ظاهرة تقتضي ذلك .ومثل هذا الظن حرام ومنهي عنه في دين الله .فما ينبغي لمسلم يقظ نبيه أن يسارع في اتهام المسلمين ،وقذفهم بالسوء من المنكرات والفواحش .وإنما المسلم بطبعه وحقيقته لهو خاشع حريص ،آخذ بالاحتياط والحذر ،مجتنب لسوء الظن بإخوانه المسلمين ،بل إنه يبادر بتلمس المعاذير لإخوانه عما يقال في حقهم أو ينسب إليهم من سوء الأقاويل والشبهات .وفي ذلك روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا .وروى ابن ماجه عن عبد الله ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول:"ما أطيبك وأطيب ريحك .ما أعظمك وأعظم حرمتك ،والذي نفس محمد بيده لحرمه المؤمن أعظم عند الله تعالى منك ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا ".
وفي التنديد بالظن والتحذير من التلبس به روى أبو هريرة ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والظن ،فإن الظن أكذب الحديث ،ولا تجسسوا ولا تحسسوا ،ولا تنافسوا ،ولا تحاسدوا ،ولا تباغضوا ،ولا تدابروا ،وكونوا عباد الله إخوانا ".
وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان ( رضي الله عنه ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة ،والحسد ،وسوء الظن "فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟قال صلى الله عليه وسلم:"إذا حسدت فاستغفر الله ،وإذا ظننت فلا تحقق ،وإذا تطيرت فامض "وروى الإمام أحمد عن عقبة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موءودة من قبرها ".
قوله:{إن بعض الظن إثم} فهو لم ينه عن الظن كله ،فقد أذن الله للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض خيرا .بل نهى الله عن بعض الظن وهو ما كان في الشر .فيكون المعنى: إنّ ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير ،إثم منهي عنه .
قوله:{ولا تجسسوا} من التجسس .وهو تتبع الأخبار لمعرفتها .أو الفحص عن بواطن الأمور .والجاسوس الذي يتجسس الأخبار ليأتي بها{[4298]} والمعنى المقصود: خذوا ما تبدى لكم من ظواهر الأمور ولا تتبعوا عورات المسلمين لمعرفتها أو كشفها .أو لا يبحث المسلم عن أخيه المسلم ليطلع عليه بعد أن ستره الله .وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ،ولا تتبعوا عوراتهم ،فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ،ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ".
هذه هي محجة{[4299]} الإسلام الناصعة البيضاء ،وطبيعته المميزة الفضلى ،القائمة على العقيدة الثابتة والخلق الكريم مهما تكن الأحوال والأعراف والظروف .تلك هي طبيعة الإسلام التي لا تتغير ولا بتبدل الأحوال والأزمان والمصالح ،بل إن الأحوال والأعراف والملابسات والتصورات جميعا هي التي تدور مع الإسلام حيث دار .
ومثلبة التجسس واحدة من مثالب شتى خسيسة ،قد ندد بها أبلغ تنديد ،وهي أن يتتبع المرء عورات الناس من المسلمين وغير المسلمين من أجل الوقوف على أخبارهم وأستارهم ،وللاطلاع على أسرارهم التي ما ينبغي أن يطلع عليها الآخرون .
إن هذه لهي حقيقة الإسلام العظيم الذي ينفذ إلى دخائل النفس البشرية فيطهرها بالعقيدة تطهيرا ويهذبها بأحكامه وآدابه أكمل تهذيب ، لتكون نقية سليمة من الغش والكذب والخداع والنفاق وأدران القلوب .ويخالف ذلك تماما هذه الحضارات المادية المعاصرة الكنود التي تستند في بقائها وثباتها ومكثها وقوتها –إلى حد عظيم- على التجسس والخيانة والاحتيال وتتبع عورات البشر وكشف عيوبهم وأخبارهم ،والغوص إلى صميم أستارهم وأسرارهم التي فرض الله أن تستر .ومن أفظع ما اصطلحت عليه أعراف الدول المادية في العصر الراهن هذا المصطلح الرهيب المقبوح المسمى ( المخابرات ) لا جرم أنه مصطلح مشؤوم ومنكود تنزف منه أخلاط شتى من معاني الشر والشؤم والإرهاب والخيانة والعار والفضائح وكشف العورات والأستار للبشر .إن ذلكم لهو عنوان الحضارات المادية الظالمة في هذا الزمان .حضارات جاحدة جائرة لا تستند إلى حق أو منطق أو ضمير أو عقيدة صحيحة سليمة إنما تستند إلى القوة والإرهاب والبطش والتنكيل والإباحية والشهوات .وذلك كله بخلاف الإسلام الذي يرسخ الواقع البشري على قواعد من الحق والعدل والصدق والبر والرحمة والوضوح في غير ما خداع ولا جور ولا نفاق ولا كذب ولا تجسس .
قوله:{ولا يغتب بعضكم بعضا} وهذه ذميمة أخرى نكراء بالغة الفحش والسوء ،قد نهى الله عنها أشد النهي وتوعد المتلبسين بها بالنكال وسوء المصير .وهي أن يذكر المرء بما فيه مما يحزنه أو يغضبه ،فإن ذكر بما ليس فيه فذلك البهتان وهو أشد وأنكى .وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرون ما الغيبة ؟"قالوا: الله ورسوله أعلم .قال:"ذكرك أخاك بما يكره "قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟قال:"إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ،وإن لم يكن فيه فقد بهتّه "فتكلم هي الغيبة ،وأشد منها الإفك والبهتان .فأما الغيبة ،فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه .وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه .وأما البهتان فهو أن تقول فيه ما ليس فيه .
والغيبة: وهي من أشد الكبائر وأفحشها قد شدد الإسلام عليها النكير وندد بالمغتابين الآثمين أعظم تنديد ،فقد روي عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا ،تعني قصيرة .فقال صلى الله عليه وسلم:"لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته "قوله:{أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} لقد شبه الله الغيبة بأكل الميتة .قال ابن عباس: إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة ،لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس .والمعنى: كما تكرهون الأكل من لحم إخوانكم ميتين فاكرهوا غيبتهم أحياء .والمراد بهذا المثل ،التنفير من الغيبة والتحذير من الخوض في أعراض الناس فإن ذلك فظيع الإثم ،شديد النكر ،فقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه:"كل المسلم على المسلم حرام ،ماله وعرضه ودمه ".وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ،فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ،ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ".وروى أبو هريرة أن ماعزا الأسلمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم .فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب فسكت عنهما .ثم سار ساعة حتى مرّ بجيفة حمار شائل برجله فقال:"أين فلان وفلان ؟"فقالا: نحن ذا يا رسول الله .قال:"انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار "فقالا: يا نبي الله ومن يأكل من هذا ؟!.قال:"فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها "على أن غيبة الفاسق المجاهر بفسقه غير منهي عنها .وإنما الغيبة في المرء الذي يصون نفسه عن الفواحش ويستر نفسه عن الموبقات والشبهات .وروي عن الحسن البصري أنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة: صاحب الهوى ،والفاسق المعلن ،والإمام الجائر .وعنه أنه قال: ليس لأهل البدع غيبة .وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"مطل الغني ظلم ".وقال:"ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته ".
وكذلك الاستفتاء فإنه ليس بغيبة ،كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم:"إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي فآخذ من غير علمه ؟.فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"نعم فخذي ".
قوله:{واتقوا الله إن الله تواب رحيم} أي خافوا الله وامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا مانهاكم عنه .وهو سبحانه يتوب على من تاب فيغفر الذنوب والخطايا لمن أناب إلى ربه مستغفرا .وهو رحيم بالمؤمنين التائبين فلا يعاقبهم بعد أن تابوا وأنابوا{[4300]} .