ثم قال الله تعالى مستدلاً بربوبيته على ألوهيته قال:{أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} بمعنى بل ،والهمزة ( بل أخلقوا من غير شيء ) أي: من غير خالق ،أم هم الخالقون ،والجواب: لا خلقوا من غير خالق ،ولا هم الخالقون ،أما كونهم لم يخلقوا من غير خالق ،فلأن القاعدة العقلية الحسية التي أجمع عليها العقلاء أن كل محدث لابد له من محدث ،فإذا كان كل محدث لابد له من محدث ،فإذا نظرنا في أنفسنا فنحن حادثون قال الله تعالى:{هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً} .فالواحد منا الذي له عشرون سنة ،هو قبل اثنتين وعشرين سنة ليس شيئاً مذكوراً ،ولا يعرف ولا يدرى عنه ،إذن نحن حادثون ،وكل حادث لابد له من مُحدث ،فهل أنتم خلقتم بغير محدث ؟الجواب: لا ،وهذا جواب عقلي لا ينكر ،أم هم الخالقون لأنفسهم ؟الجواب: لا ،لأنهم قبل أن يوجدوا عدم ،وكيف يمكن للعدم أن يخلق ؟لا يمكن هذا ،فإذا تبين أنهم لم يخلقوا من غير خالق ،وأنهم لم يخلقوا أنفسهم تعين أن يكون لهم خالق قادر على إيجادهم وهو الله عز وجل ،ولا يستطيع أحد منهم أن يقول: إن الذي خلقني أبي أو أمي ،فإذا لم يكن كذلك تعين أن يكون لهم خالق وهو الله تبارك وتعالى ،وإذا كان لهم خالق وهم مخلوقون مربوبون مدبرون ،فالواجب أن يخضعوا لهذا الخالق ،وأن يعبدوه وحده ،كما أنه هو الخالق وحده ،وهذه الآية سمعها جبير بن مطعم وكان قد قدم إلى المدينة وهو مشرك ،على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب الفداء لأسرى بدر ،وغزوة بدر انتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم والحمد لله - وقتلوا من قريش سبعين رجلاً ،وأسروا سبعين رجلاً ،وجاءوا بهم إلى المدينة ،وانقسموا إلى أقسام ،منهم من أطلقه النبي عليه الصلاة والسلام ،ومنّ عليه ،ومنهم من فداه بمال ،ومنهم من فداه بأسير ومنهم من فداه بتعليم أهل المدينة الكتابة ،وجبير بن مطعم أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام يطلب فداء أسرى بدر لأنه من صميم قريش ،والأسرى أيضاً من قريش ،ويظهر لي - والله أعلم - أن جبيراً سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له ».وذلك أن مطعم بن عدي لما رجع النبي عليه الصلاة والسلام من الطائف أجاره ،وصار يمشي معه من حين دخل مكة إلى أن وصل إلى الكعبة ،وأمر أبناءه وهم متقلدي السيوف أن يقف كل واحد على ركن من أركان الكعبة حتى لا يعتدي على الرسول أحد ،وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طف .واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف فأقبل أبو سفيان إلى مطعم ،فقال: أمجير أم تابع ؟قال: لا بل مجير .قال: إذاً لا تُخْفَر .فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه ،فلما انصرف انصرفوا معه .فهو أحسن إلى النبي عليه الصلاة والسلام ،فقال النبي عليه الصلاة والسلام وهو أوفى الناس عليه الصلاة والسلام بكرمه قال: «لو كان المطعم بن عدي حيًّا فكلمني في هؤلاء النتنى » أي: الأسرى ،ووصفهم بأنهم نتنى ؛لأن المشركين نجس ،والنتن هو الرائحة الكريهة «في هؤلاء النتنى لتركتهم له » وجبير ابنه فلعله - والله أعلم - سمع بهذه المقالة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب فداء الأسرى ،وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ في المغرب بسورة الطور ولما بلغ هذه الآية:{أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} قال جبير: ( كاد قلبي يطير ) لأن هذه حجة ملزمة لا يمكن أن يتخلص منها أحد ،قال: ( ووقر الإيمان في قلبي ) يعني معناه أنه دخل الإيمان في قلبه ،سبحان الله ،فانظر تأثير القرآن الكريم مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما دعاه في تلك الساعة ،لكن سمع هذه الآية العجيبة العظيمة ،فكاد قلبه يطير ،{أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} والجواب بكل سهولة: لا ،في الأمرين ،لا خلقوا من غير شيء ،ولا هم الخالقون ،بل لهم خالق وهو الله سبحانه وتعالى ،ولا أحد يمكن أن ينكر هاتين المقدمتين كلها حجة قطعية تدمغ كل كافر ،يعني إذا قال: نعم لي خالق خلقني قلنا: إذن لماذا لا تعبده ،لأنك عبد له مملوك له