التّفسير
ما هو كلامكم الحقّ ؟
هذه الآيات تواصل البحث الاستدلالي السابقكذلكوهي تناقش المنكرين للقرآن ونبوّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقدرة الله سبحانه .
وهي آيات تبدأ جميعها ب«أم » التي تفيد الاستفهام وتشكّل سلسلة من الاستدلال في أحد عشر سؤالا متتابعاً ( بصورة الاستفهام الإنكاري ) ،وبتعبير أجلى: إنّ هذه الآيات تسدّ جميع الطرق بوجه المخالفين فلا تدع لهم مهرباً في عبارات موجزة ومؤثّرة جدّاً بحيث ينحني الإنسان لها من دون اختياره إعظاماً ويعترف ويقرّ بانسجامها وعظمتها .فأوّل ما تبدأ به هو موضوع الخلق فتقول: ( أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ){[4769]} .
وهذه العبارة الموجزة والمقتضبة في الحقيقة هي إشارة إلى «برهان العليّة » المعروف الوارد في الفلسفة وعلم الكلام لإثبات وجود الله ،وهو أنّ العالم الذي نعيش فيه ممّا لا شكّفيهحادث ( لأنّه في تغيير دائم ،وكلّ ما هو متغيّر فهو في معرض الحوادث ،وكلّ ما هو في معرض الحوادث محال أن يكون قديماً وأزليّاً ) .
والآن ينقدح هذا السؤال ،وهو إذا كان العالم حادثاً فلا يخرج عن الحالات الخمس التالية:
1وُجد من دون علّة !
2هو نفسه علّة لنفسه .
3معلولات العالم علّة لوجوده .
4إنّ هذا العالم معلول لعلّة اُخرى وهي معلولة لعلّة اُخرى إلى ما لا نهاية .
5إنّ هذا العالم مخلوق لواجب الوجود الذي يكون وجوده ذاتياً له .
وبطلان الاحتمالات الأربع المتقدّمة واضح ،لأنّ وجود المعلول من دون علّة محال ،وإلاّ فينبغي أن يكون كلّ شيء موجوداً في أي ظرف كان ،والأمر ليس كذلك !
والاحتمال الثاني وهو أن يوجد الشيء من نفسه محال أيضاً ،لأنّ مفهومه أن يكون موجوداً قبل وجوده ،ويلزم منه اجتماع النقيضين [ فلاحظوا بدقّة] .
وكذلك الاحتمال الثالث وهو أنّ مخلوقات الإنسان خلقته ،وهو واضح البطلان إذ يلزم منه الدور !.
وكذلك الاحتمال الرابع وهو تسلسل العلل وترتّب العلل والمعلول إلى ما لا نهاية أيضاً محال ،لأنّ سلسلة المعلولات اللاّ محدودة مخلوقة ،والمخلوق مخلوق ويحتاج إلى خالق أوجده ،ترى هل تتحوّل الأصفار التي لا نهاية لها إلى عدد ؟!أو ينفلق النور من ما لا نهاية الظلمة ؟!وهل يولد الغنى من ما لا نهاية له في الفقر والفاقة ؟
فبناءً على ذلك لا طريق إلاّ القبول بالاحتمال الخامس ،أي خالقية واجب الوجود [ فلاحظوا بدقّة أيضاً] .
وحيث أنّ الركن الأصلي لهذا البرهان هو نفي الاحتمالين الأوّل والثاني فإنّ القرآن اقتنع به فحسب .
والآن ندرك جيّداً وجه الاستدلال في هذه العبارات الموجزة !