ثم بدأ الله - عز وجل - بقصص الأنبياء على وجه مختصر في هذه السورة ،لكنه مؤثر تأثيراً بالغاً ،لو قرأتها بتمهل وتدبر لوجدت أنها مؤثرة جدًّا ،كلمات مختصرة لكنها رادعة تماماً
{كذبت قبلهم قوم نوح} ونوح هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض بدلالة القرآن والسنة ،قال الله تبارك وتعالى:{إنا أوحينآ إليك كما أوحينآ إلى نوح والنبيين من بعده} وقال تعالى:{ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} وبهذا نعرف أن ما ذكره بعض المؤرخين من أن إدريس هو الجد لنوح ،كذب لا شك فيه ،وليس قبل نوح رسول وفي حديث الشفاعة التصريح بأنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض،ولذلك كان من عقيدتنا أن أول الرسل نوح ،وأن آخر الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم ،{كذبت قبلهم قوم نوح} لم يفصل الله عز وجل هذا التكذيب ،لكنه أنزل في ذلك سورة تامة وهي سورة نوح ،فصل الله فيها تفصيلاً تامًّا في تكذيبهم وأخذهم ،{فكذبوا عبدنا} وهو نوح وصفه الله بالعبودية ،لأن العبودية أشرف ألقاب البشر ،وهي التذلل لله بالطاعة والإنابة والتوكل وغير ذلك ،والعبودية من حيث هي ثلاثة أنواع:
عبودية عامة: تشمل جميع الخلق ،وهي التذلل للأمر الكوني كقوله تبارك وتعالى:{إن كل من في السماوات والأَرض إلا آتى الرحمن عبداً} .أي: ما كل من في السموات والأرض إلا هذه حاله: أنه آتي الرحمن عبداً ،وهذه العبودية للأمر الكوني ،لأن أمر الله عز وجل الكوني لا يمكن لأحد أن يفر منه ،مهما كانت قوته .
النوع الثاني: العبودية الخاصة بالمؤمنين: مثل قوله تعالى:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأَرض هوناً} فهذه عامة لكل مؤمن .
الثالث: العبودية الخاصة بالأنبياء: وهذه مثل قوله تعالى:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً} .{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} .{الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} .ومن ذلك هذه الآية:{فكذبوا عبدنا} .
وقد لبث فيهم نوح عليه الصلاة والسلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ،لكنهم كلما دعاهم إلى الله ليغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا قوله ،واستغشوا ثيابهم حتى لا يروه ،ولا أبلغ من هذا الاستكبار أن يضع الإنسان يده في أذنيه حتى لا يسمع قول الداعي ،وأن يستغشي ثوبه فيتغطى به حتى لا يراه{وقالوا مجنون} المجنون فاقد العقل الذي يهذي بما لا يدري قالوا: إنه مجنون ،وهذه القولة قيلت لكل الرسل ،قال الله تعالى:{كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} و( أو ) هنا إما للتنويع يعني بعضهم يقول: ساحر ،وبعضهم يقول: مجنون ،أو أنها للتنويع يعني بمعنى أن بعض المكذبين يقول ساحر ،وبعضهم يقول: مجنون ،أو أنهم يقولون هذا وهذا .{وازدجر} أي: زجر زجراً شديداً ،والزجر هو النهر بشدة وعنف ،والدال هنا منقلبة عن تاء ،وقد قال العلماء: إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ،والمعنى: أنه زجرٌ شديدٌ ،وقوله:{وازدجر} ينبغي ألا توصل بما قبلها ،لأنك لو وصلت وقلت:{وقالوا مجنون وازدجر} لتوهَّم السامع أنهم يقولون مجنون وازدجر ،يعني زجره غيرنا ،لكن المعنى خلاف ذلك ،المعنى كذبوا وازدجروه ،فإذن الأولَى أن تقف على قوله ،{وقالوا مجنون} ثم تصل وتقول:{وازدجر} فيكون هنا لم يقتصر هؤلاء المكذبون على أن كذبوا بل كذبوا وزجروا وتوعدوا وسخروا ،ولما طال الأمد