ولما أمرنا أن ننفق مما جعلنا مستخلفين قال:{وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} يعني أي شيء يمنعهم ،والإنفاق في سبيل الله يشمل كل شيء أمر الله بالإنفاق فيه ،ففي سبيل الله هنا عامة ،وعليه يدخل في ذلك الإنفاق على النفس ،والإنفاق على الزوجة ،والإنفاق على الأهل ،والإنفاق على الفقراء واليتامى ،والإنفاق في الجهاد في سبيل الله ،فكل ما أمر الله تعالى بالإنفاق فيه فهو داخل في هذه الآية حتى إنفاقك على نفسك صدقة ،وإنفاقك على زوجك صدقة ،ولكن لاحظ النية ،لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها »،فلزم هذا القيد ،لابد أن تبتغي بها وجه الله إلا أجرت ،أي: أثبت عليها ،{ولله ميراث السماوات والأَرض} يعني كيف لا تنفق والذي سيرث السماوات والأرض هو الله ،ومن جملة ذلك مالك الذي بخلت به سيرثه الله - عز وجل - وترجع الأمور كلها لله سبحانه وتعالى .قال أهل العلم: إن الشح في إنفاق المال سفه في العقل ،لأن هذا المال إما أن يفنى في حياتك فتعدمه ،وإما أن يبقى بعد موتك فإذا ورث مالك من بعدك فإما أن يرثه صالح فيكون أسعد به منك ،وإما أن يرثه مفسد فتكون خلفت له ما يستعين به على إفساده ،فإذا خلفت المال فإما أن تخلفه إلى من ينفقه في سبيل الله فيكون هو أسعد بمالك منك ،وإما أن تخلفه لمفسد يستعين به على معصية الله فتكون أعنته على معصية الله ،بما خلفت له من المال ،إذن اللائق بك أن تنفقه في سبيل الله حتى يكون لك غنم وتسلم من غائلته لو ورثه من يفسد به ،فتذكر يا أخي عندما تفكر في الإنفاق فيأتيك الشيطان فيأمرك بالبخل ويعدك الفقر ،فكر أنك إذا خلفت هذا المال فلابد أن يورث ،لن يدفن معك ،لابد أن يورث ويكون الإرث دائراً بين الأمرين السابقين .{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} دين الإسلام دين العدل في العمل والجزاء ،وانتبه دين العدل في العمل والجزاء وليس كما يقول المحدَثون: «إنه دين المساواة » ،هذا غلط عظيم ،لكن يتوصل به أهل الآراء والأفكار الفاسدة إلى مقاصد ذميمة ،حتى يقول: المرأة والرجل ،والمؤمن والكافر سواء ،ولا فرق ،وسبحان الله إنك لن تجد في القرآن كلمة المساواة بين الناس ،بل لابد من فرق ،بل أكثر ما في القرآن نفي المساواة{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وآيات كثيرة ،فاحذر أن تتابع فتكون كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ،بدل من أن تقول: ( الدين الإسلامي دين مساواة ) قل: ( دين العدل الذي أمر الله به ،يعطي كل ذي حق حقه ) ،أرأيت المرأة مع الرجل في الإرث ،وفي الدية ،وفي العقيقة ،وفك الرهان يختلفون .وفي الدين: المرأة ناقصة إذا حاضت لم تصل ولم تصم ،وفي العقل المرأة ناقصة: شهادة الرجل بشهادة امرأتين ،وهلم جرا ،والذين ينطقون بكلمة مساواة إذا قررنا هذا وأنه من القواعد الشرعية الإسلامية ألزمونا بالمساواة في هذه الأمور ،وإلا لصرنا متناقضين ،فنقول: دين الإسلام هو دين العدل يعطي كل إنسان ما يستحق ،حتى جاء في الحديث: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود» يعني إذا أخطا الإنسان الشريف الوجيه في غير الحدود فاحفظ عليه كرامته وأقله ،هذا الذي تقيله إذا كان من الشرفاء ،إقالتك إياه أعظم تربية من أن تجلده ألف جلدة ،لأنه كما قيل: الكريم إذا أكرمته ملكته ،لكن لو وجد إنسان فاسق ماجن فهذا اشدد عليه العقوبة وأعزره ،ولهذا لما كثر شرب الخمر في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضاعف العقوبة بدل أربعين جعلها ثمانين،كذلك الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن: «من شرب فاجلدوه ،ثم إن شرب فاجلدوه ،ثم إن شرب فاجلدوه ،ثم إن شرب فاقتلوه »،لأن لا فائدة في جلده ،ثلاث مرات نعاقبه ولا فائدة إذن خير له ولغيره أن يقتل ،وإذا قتلناه استراح من الإثم ،كما قال الله عز وجل:{ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأَنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين} والخلاصة أن التعبير بأن دين الإسلام دين ااساواة غلط وليس بصحيح ،بل هو دين العدل ولا شك ،والعجب أن هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام ،يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى» فيتناقضون ،والحديث لم ينف مطلقاً ،وإنما قال: «إلا بالتقوى » فهم يختلفون بالتقوى ،ثم إن هذا الحديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام ،لأنه قال: «إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة ،واصطفى من كنانة قريشاً ،واصطفى من قريش بني هاشم ،واصطفاني من بني هاشم» ففضل ،ولا شك أن جنس العرب أفضل من جنس غير العرب لا شك عندنا في هذا ،والدليل على هذا أن الله جعل في العرب أكمل نبوة ورسالة ،محمد صلى الله عليه وسلم ،وقد قال الله تعالى:{الله أعلم حيث يجعل رسالته} فالأجناس تختلف ،وقال عليه الصلاة والسلام: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا» فاحذر أن تتابع في العبارات التي ترد من المحدِثين المحدَثين حتى تتأملها وما فيها من الإيحاءات التي تدل على مفاسد ولو على المدى البعيد ،أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يتولانا في الدنيا والآخرة ،إنه على كل شيء قدير .
{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} أي: لا يكونوا سواء ،والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبين قريش ،وذلك في ذي القعدة من عام ستة من الهجرة ،وسمي فتحاً ،لأنه صار فيه توسيع للمسلمين وتوسيع أيضاً للمشركين .واختلط الناس بعضهم ببعض ،وأمن الناس بعضهم بعض حتى يسر الله - عز وجل - أن نقضت قريش العهد ،فكان من بعد ذلك الفتح الأعظم ،فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان قال الله - عز وجل -:{أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} وذلك لأن الأولين أنفقوا وقاتلوا وسبقوا إلى الإسلام وكان الإسلام في حاجة لهم ولإنفاقهم ،فكانوا أفضل ممن أنفق من بعد وقاتل ،والله سبحانه وتعالى يجزي بالعدل بين عباده ،ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه أن لا فضل للاحقين قال:{وكلا وعد الله الحسنى} أي: كل من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ،والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ،وعدهم الله الحسنى ،يعني الجنة ،{والله بما تعملون خبير} أي: عليمببواطن أموركم كظواهركم لا يخفى عليه شيء ،وإذا كان عالماً بها فسوف يجازي - جل وعلا - كل عامل بما عمل ،قال الله تعالى:{فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} .