{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ} وما الذي يمنعكم من ذلك ،فهل تتصوّرون أنكم إذا بخلتم وامتنعتم عن الإنفاق فسيبقى المال لكم ،وهل تبقون أنتم في خلود الحياة ؟لو فكرتم في الموضوع بطريقة واقعيةٍ فستعرفون أنكم ستموتون ،وأن المال سيترككم أو تتركونه ،لأن الله وحده هو الباقي وأنتم الزائلون ،{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} فهو الذي يرث الأرض ومن عليها ،كما يرث السماوات وما فيها ومن فيها ،ولذلك فلا بد من تعميق الصلة بالله ،بالعمل بما يحبه ويرضاه ،وبالابتعاد عما يسخطه ويرفضه .وإذا كان الإنفاق في سبيل الله سبباً لرضاه ،فلماذا يمتنع الناس عنه ،وهو الذي يبقى لهم ذخراً عند الله عندما يتركون الحياة ،أو تتركهم الحياة .وإذا أراد الإنسان أن يختار الإنفاق ،انطلاقاً من إيمانه ،واقتناعاً بنتائجه الأخروية ،فعليه أن يدرس طبيعة الظروف التي يختار فيها العطاء ،فهناك حالات يمثل فيها الواقع وضعاً صعباً في حاجة الإسلام والمسلمين إلى المال ،بحيث ترتبط به مسألة النصر في مواجهة الأعداء ،من خلال الحاجة إلى السلاح والأمور التي تتصل بحاجات المقاتلين في أنفسهم وأهليهم ،وهناك حالات لا تمثل أية مشكلةٍ في ما هي الضرورة الملحة إلى المال ،لأن المسلمين يعيشون في ظروفٍ عاديةٍ أو ممتازةٍ ،بحيث لا يمثل الإنفاق حاجةً عامة .ولذلك فإن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يختارون الإنفاق في الحالات الصعبة ،وبين الذين يختارونه في الظروف العادية .
الإنفاق في ساحات الجهاد
وكما هو الإنفاق المالي ،نلتقي بالتضحية في ساحات الجهاد ،فهناك الناس الذين يجاهدون ويقاتلون في ظروف التحديات الكبيرة التي يواجه فيها المسلمون الحصار ،ويعيشون فيها بعض حالات الضعف ويعملون على تحويلها إلى حالات قوة ،ما يجعلهم بحاجةٍ إلى العناصر البشرية المجاهدة المقاتلة .وهناك الناس الذين يتقدّمون للقتال في الظروف العادية التي استطاع فيها المسلمون الوصول إلى مراكز القوة من خلال الفتح الكبير الذي مهّد لهم سبيل السيطرة على الواقع كله ،وهذا ما جاءت به الفقرة التالية من الآية{لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ} لأن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يجاهدون وينفقون في الظروف الصعبة القاسية التي كان الإسلام فيها يعاني من قلة العدد والعدة ،في مواجهة القوة الكافرة التي كانت تتميز بكثرة العدد والعدة ،وبين الذين يجاهدون بعد الفتح الذي كانت القوة فيه للمسلمين وذلك بعد فتح الحديبية أو فتح مكة ،بحيث لم تكن هناك مشكلة كبيرة في العدد والعتاد ،الأمر الذي يجعل الفئة الأولى في المواقع المتقدمة في درجات القرب من الله ،لأن مسألة المعاناة في مواقفهم والأثر الكبير الإيجابي في نصرتهم للإسلام في مواقعهم تحمل ميزةً كبيرةً لا تقترب منها الفئة الأخيرة .
{وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} لأن لكلّ فريقٍ عمله الذي يجعله قريباً من الله ،مع تفاوت الدرجة ،ما يجعل الثواب المتنوع وعد الله للجميع ،{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لأنه يعلم عمق النية في القلب ،وصدق الإحساس في الشعور ،وقوة الفكرة في العقل ،واستقامة الخط في الطريق ،ويعرف خفايا ذلك كله في درجاته ومواقعه .