{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} هذه جملة مؤكدة باللام وقد ،والقسم المقدر ،والتقدير: والله لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ،ولعل قائلاً يقول: كيف يقسم الله - عز وجل - ؟وكيف يؤكد الله خبره بالقسم وهو الصادق بدون ذلك ؟
والجواب أن يقال: القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين ،واللسان العربي المبين يؤكد الأشياء الهامة ،أو الأشياء المنكرة بأنواع المؤكدات حتى يطمئن المخاطب ولا يرتاب المرتاب ،وهذا يذكر في القرآن كثيراً ،والتوكيد هنا ليس منصباً على إرسال الرسل ،لأن إرسال الرسل معلوم{وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} لكنه منصب على قوله بالبينات أي أن الرسل جاءوا بالبينات ،والبينات صفة لموصوف محذوف ،والتقدير بالآيات البينات أي العلامات البينة الدالة على صدق رسالتهم وصحتها ،فإن الله تعالى ما بعث نبياً إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر ،وهذا من الحكمة والرحمة ،أما كونه من الحكمة فليس من الحكمة أن يأتي رجل من بني آدم ويقول للناس: أنا رسول الله إليكم بدون آية ،بدون بينة ،ولو كلف الناس بالإيمان برسل الله بدون بينة لكان في ذلك مشقة عظيمة ،ومن رحمة الله أن الله أيد الرسول بالآيات البينات الظاهرة ،قال العلماء: والله تعالى من حكمته ورحمته جعل لكل نبي من الآيات ما يتبين به رسالتهم ،مثال ذلك أرسل الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام إلى فرعون وأعطاه آيات بينات ،قال الله تعالى:{ولقد ءاتينا موسى تسع ءايات بينات} منها العصا العجيبة ،عصا عادية فيها آيات من آيات الله ،منها أنه لما اجتمع السحرة الفجار بأمر فرعون ومساندته وألقوا حبالهم وعصيهم ،وصارت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين أرهبت الناس حتى موسى عليه الصلاة والسلام أوجس في نفسه خيفة ،لأنها فوق ما يتصور ،سحرة مهرة أتوا بكل قوتهم وألقوا فملؤوا الأرض حبالاً وعصياً ،فجعلت هذه الحبال والعصي كأنها حيات وثعابين ،{فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءو بسحر عظيم} ،أوحى الله إليه أن يلقي العصا ،فانقلبت هذه العصا حية ،وجعلت تلقف ما يأفكون .كل الحبال التي جاءوا بها أكلتها هذه الحية ،فهذه من آيات الله العظيمة ،كيف تكون هذه الحية تأكل كل هذه الحبال والعصي ،أين تذهب ؟لكنها - والله أعلم - بمجرد ما تأكلها تكون كالبخار ،وإلا فبطن هذه الحية لا يسعها ،لكن هذه آية ،ونحن نتصور هذه الواقعة خبراً ،ولكن لو رأيناها نظراً كان الأمر أشد وأعظم ،فنحن الآن لا نتصورها إلا في الخبر وفي الذهن فقط ،ولكن لو شاهدت عرفت أن الآية عظيمة .والآية الثانية في هذه العصا أن موسى استسقاه قومه وطلبوا منه الماء فضرب حجراً من الحجارة فتفجر عيوناً ،اثنتا عشرة عيناً ،لأن بني إسرائيل كانوا اثنتي عشرة قبيلة ،والآية الثالثة: أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أدركه فرعون وحشره إلى البحر أيقن أصحاب موسى عليه الصلاة والسلام أنهم هالكون ،وقالوا: إنا لمدركون ،ليس لنا مفر ،البحر أمامنا ،إن خضناه غرقنا ،وفرعون وجنوده خلفنا سيقضون علينا ،قال أصحابه: إنا لمدركون .ولكن انظر إلى الإيمان واليقين ،قال:{كلا} لن ندرك ،{إن معى ربي سيهدين} أي: سيدلني على ما فيه النجاة .فأوحى الله إليه بأن اضرب بعصاك البحر فانفلق ،فضرب البحر مرة واحدة بالعصا فانفلق اثني عشر طريقاً على عدد قبائل بني إسرائيل ،وكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل ،وانظر إلى الإيمان أيضاً كيف دخلوا في هذه الطرق والمياه على أيمانهم وعلى شمائلهم ولكنه الإيمان ،لأنهم عرفوا أنهم ناجون ولابد .وعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أعطاه الله تعالى آيات بينات ،كان يبرىء الأكمه والأبرص بإذن الله ،وهذان المرضان لا حيلة للأطباء فيهما إلى الآن ،اللهم إلا الأكمه ،وكان يحيي الموتى بإذن الله ،يقول للجنازة أمام الناس: احيي .فتحيا بإذن الله ،وكان يخرج الموتى من قبورهم ،يقف على القبر ويأمر صاحب القبر بأن يخرج ويخرج حيًّا ،من يستطيع هذا إلا الله - عز وجل - وجعله آية لهذا النبي عليه السلام .وكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخه فيطير ،قال الله - عز وجل -:{فيكون طيرًا بإذن الله} وفي قراءة ثانية: ( يكون طائراً ) ،وإذا جمعت بين القراءتين صار المعنى طيراً بإذن الله يطير ،لأنه ما كل طير يطير ،فالنعامة لها جناح ولكنها لا تطير ،لكن يكون طيراً يطير يشاهد في الجو وهو خلقه من طين ،وهذا لا يقدر عليه إلا الله ،وجعله الله آية لعيسى .
فإن قال قائل: لماذا خص الله موسى بالعصا وخص عيسى بإحياء الموتى وخلق الطيور ؟
قال أهل العلم: إن الله - عز وجل - حكيم يجعل لكل نبي من الآيات ما يناسب الوقت ،وحال الناس حتى يعجزهم ،فالسحر ترقى إلى حد بعيد في عهد موسى عليه الصلاة والسلام فأراهم الله آية يعجزون عنها بالسحر ،ولهذا السحرة في قصة موسى العارفون بالسحر ما ملكوا أنفسهم إلا أن يؤمنوا ،ألقي السحرة ساجدين ،كأنهم بغير اختيار ،فسجدوا وقالوا إعلاناً:{قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} وعيسى عليه الصلاة والسلام ترقى في عهده الطب ترقياً عظيماً فأعطاه الله آية لا يستطيع الأطباء أن يأتوا بمثلها ،أما محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه بعث في زمن البلاغة العظيمة التي ترقت إلى أعلى ما يكون في العرب واللسان العربي المبين أفصح الألسنة وأدلها على ما في الضمير ،فبعثه الله - عز وجل - بقرآن كريم أعجز العرب أن يأتوا بمثله ،ولن يأتي أحد بمثله لا الجن ولا الإنس ،قال الله - عز وجل -:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرءان لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا} وصدق الله - عز وجل - فالقرآن كلام الله فكما أن الله ليس كمثله شيء ،فكلامه ليس مثله كلام ،وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ما بعث نبيًّا إلا آتاه من الآيات ما يؤمن على مثله البشر حتى تقوم الحجة ،قال: «وإنما الذي أوتيته وحي أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً »،وحصل ما توقع والحمد لله ،لأن آيته الكبرى هي القرآن العظيم ،والقرآن العظيم باق ،وكل الناس يقرأونه ويستنتجون منه من الآيات ما يزدادون به إيماناً ،ويعلمون به صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،فإن قال قائل: ما الحاجة إلى إعطاء الأنبياء آيات ؟فنقول: الحاجة واقعة بل للضرورة ،بل العقل أيضاً ،لأنه ليس من العقل أن يأتي شخص ويقول: إنه رسول ثم يتبع ،لابد أن يكون هناك بينة تدل على أنه رسول ،ولو جاء إنسان في غير أمة محمد عليه الصلاة والسلام وقال: إنه رسول ولم يأت بآية ،فالناس معذورون إذا لم يتبعوه ،وإلا لكان كل واحد يدعي أنه رسول ،أما بعد النبي صلى الله عليه وسلم فالنبوة انقطعت ؛لأنه كان خاتم النبيين ،لذلك لابد أن يكون مع الأنبياء آيات تدل على صدقهم وعلى صحة ما جاءوا به من الشريعة{وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} الكتاب: هو الوحي الذي أوحاه الله تعالى إليهم وما من رسول إلا معه كتاب ،بخلاف النبي ،فالنبي قد لا يكون معه كتاب ،لكن الرسول لابد أن يكون معه كتاب ،لأن الرسول لابد أن يعطي الناس الذين يدعوهم ما يشاهدونه بأعينهم .وفيه الأمر والنهي ،والخبر والقصص وغير ذلك مما تقتضيه الحال .وقوله:{الكتاب} المراد الجنس ،يعني الكتب ،وقوله:{والميزان} أي: العدل الذي توزن به الأشياء ويعرف قدرها وحالها ،وهذا يدل دلالة واضحة على أن القياس الصحيح مما بعث به الرسل ،لأن القياس تسوية فرع بأصل في حكم لعلة جامعة ،وقد قال الله - عز وجل -:{وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} أي: العدل والمقايسة بين الأمور{ليقوم الناس بالقسط} أي ليقوم الناس في الدين والدنيا بالقسط بالعدل في حق الله ،وفي حق العباد ،والعدل في حق الله ما ذكره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال له: «أتدري يا معاذ ما حق الله على العباد ،وما حق العباد على الله ؟» قال: الله ورسوله أعلم ،قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ،وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ».يعني أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئاً ،أما حق المخلوق ،فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأت منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ،وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه »هذا الشاهد ،أي: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ،ولو أننا عاملنا الناس بهذا لاستقام العدل ولم يتجرأ أحد على ظلم أحد ،ولو أننا شعرنا للناس بما نشعر به لأنفسنا لحلت في قلوبنا الرحمة والتواضع ،لأن كل إنسان يحب أن يعامله الناس بالرحمة والتواضع ،فعامل الناس أيضاً بالرحمة والتواضع .
فاللام في قوله{ليقوم} للتعليل يعني أرسلنا الرسل وأنزلنا معهم الكتاب ،وأنزلنا معهم الميزان لهذه الحكمة ،ليقوم الناس بالقسط ،ولهذا لا تجد أعدل من دين الله - عز وجل - في كل زمان ومكان ،وكل ما خالف دين الله - عز وجل - فهو جور وظلم ،ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن أظلم الظلم أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك .ثم سئل: أي الظلم أعظم ؟قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك »فلو مشى الناس على شريعة الله لقاموا بالقسط ،لكن كل من لم يتمش على شريعة الله فهو جائر ،قال الله تعالى:{وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر} يعني من السبيل ما هو جائر وهو سبيل الظالمين ،ثم ذكر الله تبارك وتعالى ما يحصل به النصر من جهة أخرى ،لأن النصر يكون بالوحي ويكون بالبأس وهو ما ذكره في قوله:{وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} أنزلنا الحديد يعني خلقناه لهم من المعادن واستنبط بعض العلماء من قوله:{وأنزلنا الحديد} على أن المعدن إذا كان في قمم الجبال فهو أقوى وأنفع مما إذا كان في أسفل ،لأن النزول إنما يكون من أعلى ،فالله أعلم هذا يرجع إلى علم الجيولوجيا ،لكن أنزلنا بمعنى وضعنا لهم الحديد ،وهو معدن معروف من أقوى المعادن{فيه بأس شديد} أي: في الحرب ،تصنع منه السيوف والخناجر وجميع آلات الحرب ،وإنما ذكره بعد ذكر الكتب ،لأن الدين لا يقوم إلا بهذا: بالدعوة والقتال .فإذا أبى الكفار أن يكون دين الله هو العالي فحينئذ يقاتلون ،بالحديد{ومنافع للناس} جمع المنافع لأنها لا تحصى أجناسها ،فضلاً عن أنواعها وأفرادها ،فمن يحصي المنافع التي تحصل بالحديد ؟!ولهذا جاءت بالجمع المعروف بصيغة منتهى الجموع ،{ومنافع للناس} دينية ودنيوية ،فردية وجماعية{وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} معطوفة على{ليقوم الناس بالقسط} والمراد علم الظهور الذي يترتب عليه الثواب أو العقاب ،أما علم أنه سيكون ،فهذا سابق على إرسال الرسل وإنزال الكتب ،لأنه سبحانه لم يزل ولايزال عالماً بكل شيء ،ولكن لا يشكل عليك الأمر ،لا تقل: إن الله لا يعلم إلا بعد هذا ،نقول: العلم علمان: علم بالشيء قبل وجوده ،وعلم بالشيء بعد وجوده .والعلم السابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب حتى يمتحن للناس ،{من ينصره} ،أي: ينصر دينه ،وليس المعنى ينصر نفس الله ،لأن الله غني عن العالمين ،ولهذا قال الله تعالى:{ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} .فلو قال قائل: كيف تفسر الآية ينصر دينه والله يقول:{من ينصره} هذا تفسير مخالف للفظ وأنتم تنكرون على من يفسر القرآن بما يخالف ظاهر اللفظ ،فما الجواب ؟فالجواب: نحن لا ننكر على الناس إذا فسروا القرآن بما يخالف ظاهر اللفظ إذا كان ذلك بدليل ،ولهذا إذا قال قائل في قوله تعالى:{فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} المعنى إذا قرأت القرآن أي أردت قراءته ،فهذا فسره بخلاف ظاهره ،ولكنه تفسير صحيح ،لأن الإنسان يستعيذ بالله إذا أراد أن يقرأ ،وليس إذا تم القراءة .بدليل فعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،ولأن هذا هو الذي يفيد أن يستعيذ الإنسان بالله قبل أن يقرأ ليقرأ والشيطان بعيد عنه ،على كل حال إذا قال لك قائل: كيف تفسر قوله تعالى:{من ينصره} أي من ينصر دينه وأنت تنكر على من يفسر القرآن بخلاف ظاهره ،فالجواب: أننا لا ننكر على من يفسر القرآن بخلاف ظاهره إذا كان في ذلك دليل صحيح ،والدليل على أن المراد ينصر دينه قوله:{إن الله قوى عزيز} ليس به حاجة ،ولا يحتاج إلى أحد ،فهو قوي عزيز غالب ،غالب بقوة ،لا يلحقها ضعف ،وقوله - عز وجل -:{ورسله} نصر الرسل ،إذا كان الرسول حيًّا فالمراد ينصر الرسول نفسه وشريعته ،وبعد موته ينصر شريعته ،وفي هذا دليل على أن نصر الشريعة نصر لمن جاء بها ،فلا يشكل على هذا أن الله سبحانه وتعالى قد يميت الرسول قبل أن يرى النصر الواسع له ،لأننا نقول: نصر شريعته نصر له ،وقوله:{بالغيب} أي: أنه ينصر الله - عز وجل - وينصر رسله وهو لم ير الله ،لأن الله تعالى ينصر ولا يُبصَر في الدنيا ،ولهذا قال بعض السلف: ( ينصرونه ولا يبصرونه ) تفسيراً لقوله:{بالغيب} ينصرونه ولا يبصرونه ،فالمراد لا يبصرونه في الدنيا ،أما في الآخرة فنظر الله تعالى حق ثابت بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - إذن بالغيب ،أي: ينصرون الله وهو غائب ،ويحتمل أن يكون المعنى بالغيب ،أي: بغيبتهم عن الناس ،فيكون في هذا دليل على إخلاصهم ،وأنهم ليسوا ممن يعبدون الله إذا كانوا بين الناس ،بل يعبدون الله تعالى في الغيب والشهادة{إن الله قوى عزيز} هذه الجملة استئنافية لبيان أن نصر الله - عز وجل - ليس عن ضعف ولا عن قهر ،بل هو قوي عزيز لا يحتاج إلى أحد ينصره بنفسه ،ولكن النصر لدينه ،نسأل الله أن يجعلنا من أنصار دينه إنه على كل شيء قدير .