{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الغائط ( 1 ) أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ( 2 ) صَعِيدًا( 3 ) طَيِّبًا( 4 ) فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ( 43 )}
( 1 ) الغائط: المحل المنخفض ولعله أريد بالكلمة ( الحفرة ) أو ( الجورة ) العميقة في الأرض التي كانوا يقضون حاجتهم فيها .وقد ذكرت بعض الروايات أن الناس كانوا يذهبون إلى البراري ،ويقضون حاجاتهم في منخفضاتها .وهناك روايات تذكر أنه كان في جانب المساكن أماكن تسمى كنفا ( مفردها كنيف ) لقضاء الحاجة ،وهو ما نسميه بيت الماء أو بيت الخلاء .وهذا أو ذاك بمثابته هو المعقول ؛لأن خروج الناس إلى البراري لقضاء الحاجة من أهل المدن غير معقول .ولا بد من أن يكون لهم أماكن لذلك ( حفرا أو جورا ) قريبة من المساكن .
( 2 ) تيمموا: معناها اللغوي: اتجهوا نحو الشيء أو تحروا أو اختاروا وكلمة ( التيمم ) التي هي اصطلاح إسلامي ،والتي صارت تطلق على عملية المسح من الصعيد الطاهر بدلا من الماء مشتقة منها
( 3 ) صعيدا: قيل إنه بمعنى الأرض الملساء أو بمعنى الأرض المستوية أو الأرض المرتفعة .وقيل إنها بمعنى وجه الأرض مطلقا ترابا كان أم حجرا أو صخرا .
( 4 ) طيبا: طاهرا
الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين وقد تضمنت:
( 1 ) نهيا عن الصلاة ،وهم في حالة السكر حتى يعلموا ما يقولون ؛لأن السكران لا يدري ما يقول أو يفعل .
( 2 ) ونهيا آخر عن الصلاة ،وهم على جنابة حتى يغتسلوا مع الترخيص لعابري السبيل{[559]} .
( 3 ) وترخيصا لهم إذا كانوا مرضى .
تعليق على الآية
( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ...) الخ
وما فيها من أحكام التيمم والجنابة والوضوء والاغتسال .
أولا: روى المفسرون{[560]} روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الأول من هذه الآية .وقد روى أبو داود والترمذي عن علي صيغة نكتفي بإيرادها ؛لأنها الأوثق سندا جاء فيها ( صنع لنا عبد الرحمان بن عوف طعاما وسقانا من الخمر ،فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة ،فقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة{[561]} وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ){[562]} وروى المفسرون روايات عديدة متقاربة المدى مختلفة الصيغ في سبب نزول الشطر الثاني من الآية .ومن ذلك حديث رواه البخاري عن عائشة قالت ( هلكت قلادة لأسماء فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبها رجالا ،فحضرت الصلاة وليسوا على وضوء ،ولم يجدوا ماء فصلوا على غير وضوء .فأنزل الله آية التيمم ){[563]} ومن ذلك رواية يرويها الطبري تذكر أنه نال أصحاب رسول الله جراحة ،ففشت فيهم ،ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا إلى رسول الله فنزلت وإن كنتم مرضى .ورواية أخرى يرويها الطبري أيضا أنه كان للنبي خادم اسمه: الأسلع فناداه ليلة يا أسلع ،قم فارحل لي .فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ،فأتاه جبريل بآية الصعيد ،فناداه أن قم فتيمم ،ووصف له ضربتين للتيمم واحدة للوجه ،وواحدة لليدين إلى المرفقين ،ثم مروا على ما فأمره أن يغتسل .وهذه الرواية تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر أيضا .
والأحاديث والروايات تفيد أن الآية نزلت مجزأة وفي مناسبات متعددة أنها وحدة تامة كما تبدو .وفيها نقاط أخرى لم ترد في الروايات والأحاديث مثل ملامسة النساء وعبور المساجد .وهذا يسوغ القول: إن الآية نزلت مرة واحدة واحتوت مواضيع متناسبة .
ولا يمنع هذا بطبيعة الحال أن تكون المناسبات المروية صحيحة ،فكانت سببا لنزول الآية جامعة لما كان ،ولما يفرض أن يكون ليكون الموضوع تاما .
ثانيا: والآية بعد فصل جديد وتام .وهذا النوع من الآيات التشريعية غير نادر في النظم القرآني ،وقد مر منه أمثلة في سورة البقرة .وفي هذه السورة .والتناسب قائم بين الآية والآيات السابقة من ناحية كون الجميع فصولا تشريعية .ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الفصل السابق لها فوضعت بعده للمناسبة الظرفية والموضوعية .
ومن المحتمل أن تكون نزلت في ظرف ،فوضعت بعده المناسبة الموضوعية .
ثالثا: إن النهي عن الصلاة في حالة السكر في الآية يأتي كخطوة تشريعية ثانية في الخمر .والخطوة الأولى جاء في آية سورة البقرة ( 219 ) التي ذكرت أن إثم الخمر أكبر من نفعها .وقد عرض القرآن المكي بآثار خمر الدنيا وما تحدثه من أعراض كريهة ضارة أكثر من مرة في سياق وصفه خمر الآخرة وكونها مبرأة من ذلك .وهذه الخطوة الثانية ليست حاسمة أيضا ؛لأنها إنما تنهى عن الصلاة في حالة السكر التي تنجم عن شرب الخمر .وقد نزل التشريع الحاسم الأمر بالانتهاء من شربها والجامع في الإثم بينها وبين الميسر والأنصاب والأزلام بعد مدة ما من هذه الآية في سورة المائدة .وفي هذا مشهد من مشاهد التطور التشريعي ،ودليل على تأصل تعاطي الخمر وشيوعه والانتفاع به اقتصاديا ،حتى اقتضت حكمة التنزيل هذا التدرج .
رابعا: إن الأمر بالاغتسال من الجنابة يأتي هنا لأول مرة .وقد تكرر مرة ثانية في سورة المائدة في صيغة ( وإن كنتم جنبا فاطهروا ) ( 6 ) وهذه وتلك من الآيات المدنية .وليس هناك حديث يمكن وصفه بأنه مكي الصدور عن النبي صلى الله عليه وسلم يوجب الاغتسال من الجنابة .غير أن المفسر القاسمي ينقل عن ابن عبد البر قوله: إن أهل السير متفقون على أن الغسل من الجنابة قد فرض في مكة وإن هذا مما لا يجهله عالم .وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن أبي كعب جاء فيه ( إن الفتيا التي يفتون بها إنما الماء من الماء كانت رخصة رخصها النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ،ثم أمر بالاغتسال بعد ) وجملة إنما الماء من الماء تفيد أن نزول المني هو الذي يكون به الجنابة ،ويوجب الاغتسال .والحديث يفيد أن هذا التشريع نبوي مكي .ولعل العلماء الذين يحكي ابن عبد البر اتفاقهم استندوا إلى هذا الحديث .
وشراح الحديث يذكرون أن الحديث يعني أن النبي أوجب في بدء الإسلام الاغتسال إذا ما حدث إنزال في جماع ثم أوجبه في حالة الجماع مطلقا ولو بدون إنزال .وليس هناك ما يمكن الاستناد إليه فيما اطلعنا عليه في ما إذا كان أمر النبي بالاغتسال من الجماع ،ولو لم يكن إنزال مكيا .وهناك حديث في ذلك رواه مسلم عن عائشة قالت ( إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ،ثم يكسل هل عليهما الغسل وعائشة جالسة فقال رسول الله إني لأفعل ذلك أنا وهذه ،ثم نغتسل ){[564]} وهذا الحديث مدني يقينا .وصار الاغتسال من الجماع بدون إنزال على كل حال تشريعا .
على أن قول الشراح: إن معنى إنما الماء من الماء هو: إيجاب الغسل إذا نزل مني في الجماع محل نظر في ما نرى .ونرى الأوجه ،والله أعلم أن يؤخذ الكلام على ظاهره ،فيكون نزول المني في غير حالة الجماع أيضا موجبا للاغتسال .وإذا صح هذا فيكون أيضا تشريعا تبعا لأصل الحديث الذي يذكر أن الفتيا بأن الماء من الماء كان في بدء الإسلام .
وننبه أن هناك أحاديث صريحة باعتبار نزول الماء في الاحتلام حالة جنابة وبإيجاب الاغتسال من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم جاء فيه ( إن أم سليم جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق ،فهل على المرأة غسل إذا احتلمت قال: نعم إذا رأت الماء ){[565]} وحديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة قالت ( سئل النبي عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال: يغتسل .وعن الرجل أنه قد احتلم ولا يجد ماء قال لا غسل عليه .فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك أعليها غسل قال: نعم .إنما النساء شقائق الرجال ){[566]} والأحاديث مدنية الصدور .ولكنها لا تفيد أن التشريع النبوي جديد لأمر لم يكن ،ويجوز أن يكون استمرارا للجاري منذ بدء الإسلام الذي أساسه ( إنما الماء من الماء ) ولم نطلع على حديث نبوي في صدد الإنزال في اليقظة نتيجة للتهيج الجنسي .ويقاس هذا على نزول الماء في الاحتلام ،بل يكون الأوجب للاغتسال .والله تعالى اعلم .
وهناك أحاديث نبوية توجب الغسل ،ولو لم يكن إنزال إذا التقى الختانان .من ذلك حديث رواه الخمسة إلا الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها وجب الغسل وفي رواية وإن لم ينزل وفي رواية ومس الختان بالختان ){[567]} وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل .فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا ){[568]} فصار هذا بدوره تشريعا وفي حكم الجنابة .والأحاديث مدنية الصدور ،ولا يمكن الجزم بما إذا كان الأمر استمرار لما كان جاريا في العهد المكي .
وهناك أحاديث عن المذي الذي يخرج من ذكر الرجل حين يدنو من أهله .وهو غير المني الذي ينقذف في الجماع أو الاحتلام أو اشتداد الشهوة تسوغ المناسبة إيرادها .منها حديث يرويه الإمام مالك عن المقداد ابن الأسود قال ( سئل رسول الله عنه فقال: إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح فرجه ،وليتوضأ وضوءه للصلاة ){[569]} وحديث آخر يرويه نفس الإمام عن زيد ابن أسلم عن أبيه أن عمر ابن الخطاب قال ( إني لأجده ينحدر مني مثل الحريرة ،فإذا وجد ذلك أحدكم فليغسل ذكره وليتوضأ وضوءه للصلاة يعني المذي ){[570]} . ولقد تكفلت السنة النبوية في بيان كيفية الاغتسال من الجنابة .من ذلك حديث رواه الخمسة عن ميمونة قالت: ( وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم ماء للغسل فغسل يديه مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره ،ثم مسح يده بالأرض ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ،ثم أفاض على جسده ،ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه وفي رواية ثم غسل رأسه ثلاثا ،وفي رواية فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض الماء بيده ){[571]} وحديث رواه الخمسة عن عائشة قالت ( كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه ،ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ،ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر ،حتى إذا رأى أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات ،ثم أفاض على سائر جسده ،ثم غسل رجليه ){[572]} وحديث رواه الخمسة عن أم سلمة إلا البخاري قالت ( قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة .قال: لا .إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ،ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين ){[573]} .
وهناك أحاديث مهمة في صدد السلوك في حالة الجنابة من المفيد إيرادها .
منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة قال ( لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة في طريق من طرق المدينة وأنا جنب فاختنست .وفي رواية: فانسللت فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال: أين كنت يا أبا هريرة قلت: إني كنت جنبا فكرهت أن أجالسك على غير طهارة قال سبحان الله إن المسلم لا ينجس ){[574]} وحديث رواه الخمسة أيضا عن عائشة قالت ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنبا ،فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة ){[575]} وحديث رواه الخمسة لذلك عن أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة ،وفي رواية: كان يطوف على نسائه بغسل واحد ){[576]} وروى أصحاب السنن عن علي قال ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن على كل جال ما لم يكن جنبا ){[577]} والحديث الثاني يسوغ قراءة القرآن للمسلم إذا لم يكن على وضوء .والقراءة غيبا غير الإمساك بالمصحف الذي يشترط الجمهور على أن يكون الممسك على وضوء ،ويرد على البال سؤال عما إذا كان يجوز للجنب قراءة القرآن في نفسه والقراءة هي تلاوة بالألفاظ جهرا أو تخافتا .وقراءة النفس ليست كذلك .ولم نطلع على أثر في منع هذا .والله تعالى أعلم .
خامسا: لقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في تأويل ( إلا عابري سبيل ) .منها أنها لتجويز الصلاة الجنب في حالة السفر وعدم وجود ماء .ومنها أنها لتجويز دخول المسجد للجنب إذا كان طريقه منه .وقد رووا في صدد المعنى الثاني أنه كان لبعض أصحاب رسول الله منازل أبوابها شارعة على مسجد رسول الله فكانوا يضطرون إلى العبور منها فرخص لهم ذلك إذا كانوا في حالة الجنب .وهناك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة ،ومنها ما رواه أئمة حديث آخرون تذكر أنه كان لبيتي أبي بكر وعلي رضي الله عنهما أبواب على المسجد{[578]} .
ومن الثابت اليقيني أن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت في جانب من ساحة المسجد .وليس لأهلها طريق إلا المسجد ،وليس لمن يقصدها طريق إلا المسجد .ولقد كان المسجد في الوقت نفسه مكان جلوس النبي صلى الله عليه وسلم للناس والوفود الذين يقصدونه لغير الصلاة وفي غير أوقات الصلاة .فكانت الرخصة لعبورهم المسجد في حالة الجنابة بما تقتضيه ظروف السيرة النبوية ،فكان ذلك من حكمة تنزيلها ،ويمكن أن يكون هذا محل قياس في الحالات المشابهة لطبيعة الحال .والله تعالى أعلم .
ومن الأمور الممارسة في معظم المساجد منذ زمن قديم وجود غرف ومخادع فيها للأئمة والخطباء والمدرسين والسدنة .ودخولها والخروج منها من أرض المسجد .وقد ينامون ويحتلمون فيها .بل كثيرا ما يحدث أن ينام بعضهم في صحن المسجد في فترات الصلوات ،وقد يحتلمون وحكمة الرخصة القرآنية والحالة هذه مستمرة .
سادسا: قد يلحظ أن الوضوء لم يذكر هنا .ولم يذكر فيما سبق من القرآن وإنما ذكر في آية في سورة المائدة المتأخرة في النزول مع أن المتواتر المؤيد بالأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين كانوا يتوضئون للصلاة منذ بدء الإسلام في مكة .وفي الآية نواقض للوضوء وإيجاب التيمم في حالة حدوثها وهي التبرز والتبول اللذان عبر عنهما بجملة ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) وهذا يعني أن الوضوء للصلاة كان أمرا جاريا ممارسا فاقتضت الحكمة ذكر بديله ،إذا تعذر الماء أو تعذر استعماله ،أما الأمر به في سورة المائدة فهو على ما يتبادر للتذكر والتوكيد على ما سوف نشرحه في مناسبتها .
سابعا: في جملة ما جعلته الآية سببا للتيمم إذا فقد الماء ( لمستم النساء ) وقد اختلفت أقوال المؤولين في مدى الجملة .فمنهم من أولها بمعنى مس الرجل لبشرة المرأة أو تقبيلها وعلى مذهب هؤلاء ،فإن هذا العمل يكون ناقضا للوضوء أيضا بنص قرآني .ومن هؤلاء من قال: النقض بالمس أو القبلة بشهوة .ومنهم من قيد بالمرأة الأجنبية دون المحارم .وقد أولها آخرون بمعنى الجماع .وليس هناك فيما اطلعنا عليه حديث نبوي صحيح في ذلك .
والملامسة قد ذكرت في آية أخرى في سورة المائدة في نفس الصيغة والمقام اللذين ذكرت فيهما الملامسة في آية النساء التي نحن في صددها .ولقد ورد في القرآن الكريم آيات عديدة غير الجماع فيها بكلمة ( المس ) لا ( الملامسة ) من ذلك آية سورة البقرة هذه ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ،ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) ومنها آية سورة الأحزاب هذه ( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا 49 ) وفي آية سورة آل عمران هذه الآيةقالت رب أني ويكون لي ولد ولم يمسسني بشر ) ومنها آية 20 في سورة مريم ( قال: أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ) وفي سورة المجادلة هذه الآية ( والذين يظاهرون من نسائهم ،ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) والمتبادر أن هذه الآيات هي التي جعلت الذي يقول: إن الجماع هو المس وإن الملامسة هي ملامسة بدنية تنقض الوضوء فقط .
وهكذا قام بين مذاهب الفقه لأهل السنة والجماعة مذهبان في هذا الأمر لكل منهما اجتهاد سائغ مستند إلى قرآن وحديث .واحد يقول: إن الملامسة في الآية هي ملامسة بدنية ،وهي تنقض الوضوء .وواحد يقول: إن الملامسة في الآية هي بمعنى الجماع ،وإن الملامسة البدنية لا تنقض الوضوء ونحن نحترم الرأيين ،ولا نرى حرجا على المسلم أن يعمل بأحدهما .والله تعالى أعلم .
هذا وفي كتب التفسير أحاديث وروايات أخرى في صدد التيمم من ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن عمران ابن الحصين ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم ؟فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) .
وعلى ترجيحنا استنادا إلى النصوص القرآنية بأن الملامسة لا تعني الجماع فتكون الجملة القرآنية خالية من حكم التيمم بالنسبة لمن يصيبهم جنابة ولا يجدون ماء ،فكان هذا الحديث مبينا لهذا الحكم الذي سكت عنه القرآن .
وهناك أحاديث نبوية عديدة تذكر نواقض أخرى للوضوء غير التبرز والتبول المكني عنهما في الآية في جملة ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) .
وغير الملامسة المذكورة في الآية على رأي من أولها بمس بشرة المرأة مطلقا .من ذلك خروج المذي من ذكر الرجل الذي ذكر في أحاديث سابقة .ويقاس عليها خروج نزيف دموي من أحد السبيلين ،ومن ذلك الفساء والضراط والنوم في حالة الإضجاع والقيء ورعاف الدم ومس الفرج وأكل لحوم الإبل وما غير شيه على النار ،مع اختلافات فقهية في بعض ذلك بسبب اختلاف الأحاديث وتضاربها{[579]} .
وحكمة الوضوء والاغتسال لا تحتاج إلى شرح طويل ففي غسل الأطراف المكشوفة أكثر من مرة كل يوم نظافة مستمرة ذات فوائد عظمى صحية ومظهرية .
والمباشرة الجنسية وما بسبيلها تثير هياجا يذهل المرء بعض اللحظات عن كل شيء والاغتسال يهدئ هياج الجسم ويعيد إلى النفس سكونها .وهو وسيلة إلى تطهير الجسم جميعه وتنظيفه من آن لآخر مما فيه كذلك فوائد صحية ومظهرية عظمى .
ولعل جعلهما واجبا دينيا ينطوي فيه إلزام المسلمين به دون أي إهمال وتقصير .بل هذا ما تلهمه جملة ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ) في الآية ( 6 ) من سورة المائدة التي أمر فيها بالوضوء .ويضاف إلى هذا ما في الوضوء والاغتسال من مظهر الاحتفال بالصلاة والوقوف بين يدي الله عز وجل في حالة تامة من النظافة والطهارة متوافقة مع ما تنطوي عليه الصلاة من مظهر إيمان المسلم بربه وإسلام نفسه إليه .
ثامنا: وقد يوهم نظم الآية أن جملة ( فلم تجدوا ماء ) شاملة لجمله ( وإن كنتم مرضى ) غير أن الجمهور متفقون على أن المرض يجيز للمريض التيمم في حالتي الحدثين الأصغر والأكبر مع وجود الماء .وهذا وجيه سديد مستفاد من حكمة التشريع الذي تضمنته الآية .وفي بعض الأحاديث التي سوف نوردها بعد قليل صراحة بذلك .
تاسعا: ليس هناك أثر نبوي وصحابي وثيق ،بل ولا غير وثيق أن التيمم كان في العهد المكي ؛حيث يمكن القول: إنه تشريع قرآني مدني اقتضته ظروف المسلمين المستجدة .
والمتبادر أن الحكمة من هذه العملية هي تعظيم شأن الصلاة ومواضع الصلاة وأوقات الصلاة فواجب الصلاة على المسلم مكرر في اليوم الواحد خمس مرات .وهي ركن من أركان الإسلام يجب أداؤه في أوقاته .فإذا تعذر الماء الذي يتطهر به المسلم ويستعد للوقوف أمام ربه متعبدا خاشعا فبالمسح يظهر نيته للتطهر واحتفاله بالصلاة وأدائها في أوقاتها إظهارا رمزيا ،فلا تفوته عبادة الله في الأوقات المعينة لها .
والمتبادر أن جملة ( وإن كنتم مرضى ) ليست من مشمول جملة ( فلم تجدوا ماء ) فهذه الجملة هي والله أعلم بالنسبة لمن لم يجد ماء فعلا في حين أن في الجملة الأولى ترخيصا بالتيمم للمريض مع وجود الماء إذا تيقن أن استعمال الماء في الاغتسال من الجنابة ،أو لأجل الوضوء يسبب ضررا أو خطرا على حياته وصحته .
عاشرا: إن جمهور المفسرين والمؤولين والفقهاء على وجوب البحث عن الماء .وعدم جواز التيمم إلا بعد اليأس من وجوده وهذا وجيه .
أما كيفية التيمم فهناك أحاديث عديدة فيها منها ما ورد في الصحاح .ومن ذلك حديث رواه الخمسة جاء فيه ( جاء رجل إلى عمر ابن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء ،فقال عمار ابن ياسر لعمر: أما تذكر إذ كنا في سفر أنا وأنت ،فأما أنت فلم تصل ،وأما أنا فتمكنت وصليت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( إنما كان يكفيك هكذا فضرب بكفيه على الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه ){[580]} وحديث رواه الخمسة والشافعي عن أبي الجهم قال ( أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل ،فلقيه رجل فسلم عليه ،فلم يرد عليه النبي حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ،ثم رد عليه السلام .ولفظ الشافعي فمسح وجهه وذراعيه ){[581]} ولأبي داود عن ابن عمر ( فضرب يديه على الحائط ومسح بهما وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ثم رد على الرجل السلام وقال: لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني لم أكن على طهر ){[582]} .
أما مدة التيمم فلم نطلع على حديث صحيح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روى الطبري عن علي وابن عمر والشعبي والنخعي أن التيمم يجب لكل صلاة وعن عطاء والحسن أنه كالوضوء يصلي به أكثر من صلاة ما دامت أسبابه قائمة .وقد صوب الطبري القول الأول ،وعلل تصويبه بأن الأصل القرآني هو الوضوء أو التيمم حين القيام للصلاة والسنة أجازت أكثر من صلاة بوضوء واحد لم يرد ذلك بالنسبة للتيمم ونرى في هذا وجاهة أكثر .
وننبه على أن المستفاد من أقوال المؤولين والمفسرين والفقهاء ،على أن هناك اتفاقا على جواز الصلاة النافلة بين وقتي صلاتين مكتوبتين متواليتين بتيمم واحد .
وهناك مسألة وهي وجوب قضاء الصلاة بالتيمم وعدمه عند وجود الماء .وقد روى البخاري ومالك والشافعي عن ابن عمر أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم وصلى العصر ،ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة{[583]} وروى أبو داود والنسائي عن أبي سعيد قال: ( خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما وصليا .ثم وجدا الماء في الوقت ،فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء ،ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله فذكرا له ،فقال للذي لم يعد: أصبت وأجزأتك صلاتك وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين ){[584]} وهذا يعني أن المسلم بالخيار إن شاء أعاد الصلاة التي يصليها بالتيمم حين وجود الماء وإن شاء لم يعد ،وإن كانت الإعادة أكثر أجرا .وننبه على كلمة ( وجدا الماء في الوقت ) حيث يمكن أن يعني هذا أنه إذا وجد الماء بعد فوات وقت الصلاة ،فلا يكون محل للخيار ؛حيث يكون قد صلى المسلم المكتوبة عليه بالتيمم في وقتها وبذلك أتم واجبه .والله أعلم .
والمستفاد مما يسوقه المفسرون من أقوال لهم وللمؤولين والفقهاء في صدد المرض الذي يبيح التيمم أنه الجروح والقروح التي يؤذيها الماء ولا يمكن عصبها والمسح على العصابة ،ثم المريض الواهن والشيخ الواهن اللذين يؤذيهما الماء .
وعلى كل حال إن المسألة دينية إيمانية موكولة للمؤمن المفروض أنه لا يبحث عن فتوى بدون مبرر ليخلص نفسه من مؤونة استعمال الماء للوضوء والاغتسال .والذي لا يفعل ذلك إذا اعتقد هو أو قال له الخبراء: إن استعمال الماء يؤذيه أو يزيد مرضه حقا .والله تعالى أعلم .
وهناك حديثان فيهما ما يصح الاستئناس بهما على ذلك .يروي أحدهما البخاري وأبو داود عن عمرو ابن العاص قال ( احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل ،فأشفقت أن اغتسل فأهلك ،فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح .فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمروا صليت بأصحابك وأنت جنب ؟فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال ،وقلت إني سمعت الله يقول ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) فضحك رسول الله ولم يقل شيئا ){[585]} ويروي ثانيهما أبو داود عن جابر قال ( خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه .ثم احتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ،فاغتسل فمات ،فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك ،فقال: قتلوه قتلهم الله .ألا سألوا إذا لم يعلموا ،فإنما شفاء العي السؤال .إنما كان يكفيه أنه يتيمم أو يعصب على جرحه خرقة ،ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده ){[586]} ولقد روى الخازن عن أبي حنيفة أن من مذهبه جواز التيمم إذا تعذر الماء الموجود بسبب قوة قاهرة ؛حيث يكون ذلك بمثابة عدم وجوده بحيث لو كان هناك بئر ليس عنده أداة لاستخراج الماء بها أو كان عنده خطر بوجود عدو أو سبع جاز للمسلم أن يتيمم .ووجاهة القول ظاهرة فيما نرى .والله اعلم .
وهناك احتمال لم نطلع على قول أو أثر فيه ،وهو أن يكون مع المسافر ماء قليل لا يكفي لشربه ووضوئه واغتساله ،ولا يجد ماء في طريق سفره .ويتبادر لنا أن هذا يكون في حكم انفقاد الماء للوضوء والاغتسال ويبرر التيمم ،والله تعالى أعلم .