مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحدي: نزلتأي هذه الآية:{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}في أناس من أصحاب رسول الله( ص ) كانوا يشربون الخمر ويحضرون الصلاة وهم نشاوى ،فلا يدرون كم يصلون ولا ما يقولون في صلاتهم .وجاء فيهبإسناده عن عطاء عن أبي عبد الرحمن ،قال: صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعا أناساً من أصحاب رسول الله( ص ) فطعموا وشربوا ،وحضرت صلاة المغرب ،فتقدم بعض القوم فصلى بهم المغرب ،فقرأ:{قل يا أيها الكافرون} فلم يُقمها ،فأنزل الله تعالى:{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} .
وقد اضطربت الروايات حول هذا المضمون في الداعي والإمام والمأموم ،مما يوحي بأنها ليست في مستوى الوثاقة ،كما أشار إلى ذلك الشيخ البلاغي في «تفسير آلاء الرحمن » .
وجاء في أسباب النزول حول قوله تعالى:{فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} ،بإسناده عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله( ص ) في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء ،أو بذات الجيش ،انقطع عقد لي ،فأقام رسول الله( ص ) على التماسه ،وأقام الناس معه ،وليسوا على ماءٍ وليس معهم ماء ،فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة ؟أقامت برسول الله ( ص ) وبالناس معه وليس معهم ماء ،فجاء أبو بكر ورسول الله( ص ) واضع رأسه على فخذي قد نام ،فقال: أجلستِ رسول الله والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء .قالت: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول ،فجعل يطعن بيده في خاصرتي ،فلا يمنعني من التحرك إلاّ مكان رسول الله( ص ) على فخذي ،فنام رسول الله( ص ) حتى أصبح على غير ماءٍ ،فأنزل الله تعالى آية التيمم ،فتيمّموا ،فقال أسيد بن حضير ،وهو أحد النقباء ،ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر ،قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه ،فوجدنا العقد تحته .
ونلاحظعلى هذه الروايةأنها واردة لتأكيد بركة آل أبي بكر في أمرٍ لا علاقة لهم به ،حيث إن المناسبة المذكورة لم تكن هي الأساس لنزول آية التيمم ،بل هي موضوعها ،مع ملاحظة أنّ القصة تتحدث عن أن الإقامة في المكان للبحث عن العقد كان بمبادرة من رسول الله( ص ) لا بضغطٍ من عائشة ،فكيف يلوم المسلمون عائشة على ما لا دخل لها فيه لينقلوا إلى أبيها شكواهم منها ثم كيف يحبس رسول الله( ص ) نفسه والناس ليفتش عن عقد في الوقت الذي يفقدون فيه الطهارة المائية من غير ضرورة ،مع ملاحظة أن الآية تمثل وحدة في كل التفاصيل الشرعية ،مما يوحي بأنها واردة في تشريع تلك الأحكام لا في الحديث عن التيمم وحده بشكل خاص .
من أحكام الصلاة والطهارة
في هذه الآية حديث عن بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصلاة ،في ما يتصل بالأجواء الداخلية الروحية التي يجب أن تتوافر للمصلّي ،وما يرتبط بالطهارة من الحدث كشرطٍ من شروط صحة الصلاة .ففي الجانب الأول ،وجّه الله المؤمنين إلى أن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى حتى يعلموا ما يقولون ،لأن حالة السكر تذهل الإنسان عن الوعي لكل الأشياء التي من حوله ،حتى كلماته التي يتكلم بها لا تنطلق من حالة وعي ،فقد يفعل الشيء وهو لا يعرف نتائجه ،وقد يتكلم الكلمة وهو لا يعقل معناها .ولمّا كانت الصلاةفي مدلولها العبادي الروحيعملاً يتصل بالجانب الروحي للإنسان قبل أن يتصل بجسده ،كان لا بد من الوعي العميق لأفعالها وأقوالها ،مما يفرض على المصلي أن يعيش الحضور العقلي والروحي لموقفه الخاشع بين يدي الله ،لتكون صلاتهكما ورد في الحديثعروجاً روحياً إلى الله .ومن الطبيعي أن ذلك لا ينسجم مع حالة الغياب عن الوعي التي يعيش الإنسان معها في سكرةٍ بعيدةٍ عن الواقع .
وهنا يثار سؤال: ما هو المقصود بكلمة «سكارى » ؟هل المراد منها معناها الظاهر وهو سكر الشراب ؟وحينئذٍ يبرز سؤال آخر: ما معنى توجيه هذا الحديث عن الصلاة في حال السكر للمؤمنين الذين حرّم الله عليهم الخمر ؟فكيف يطرح القرآن هذه الفرضية التي لا تتناسب مع صفة الإيمان التي يناديهم بها ؟أو المراد منها «المعنى الكنائي » الذي يتحدث عن غياب الوعي الذي يشبه حال السكرسواء في ذلكحالة النعاس الشديد الذي يكاد يطبق الجفون على النوم الثقيل ،أو حالة الذهول المسيطر على كيان الإنسان ،انطلاقاً من أزمةٍ نفسيةٍ عنيفةٍ تشغله عن كل ما حوله من القضايا والأشياء ؟وقد استعمل القرآن الكريم هذه الكلمة في هذا المعنى في قوله تعالى:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [ الحج:2] .
والجواب أن هناك اتجاهين من خلال ما وردت به الأحاديث في تفسير معنى الكلمة ؛فهناك اتجاه يضع هذه الآية في التسلسل التدريجي لأسلوب معالجة حرمة الخمر وتقريبها إلى أجواء الناس الذين كانت الخمر عادةً يومية لحياتهم ،بحيث لا تكون مواجهتهم بالتحريم ،بشكلٍ حاسمٍ ،أمراً عملياً في إبعادهم عنها ؛فبدأ بالنهي عن الصلاة في حالة السكر ،ليضيّق عليهم الفترة الزمنية التي يتناولون فيها الخمر ،وليوحي إليهم بنتائجها السلبية على علاقة الإنسان بالله .ثم انطلقت الآيات الأخرى لتشدّد على الموضوع ،بالطريقة التي تنتهي إلى التحريم الحاسم في نهاية المطاف .وهذا أسلوب قرآني درج عليه التشريع الإسلامي في تنزيل الأحكام تدريجياً وعلى دفعات .ولا بد من التنبيه على أن ذلك لا يعني الإقرار بما هم عليه من ممارسة السكر ،لأن النهي عن فعل شيء في بعض الحالات ،لا يعني الاعتراف بشرعية تلك الحالات ،بل يترك الأمر مسكوتاً عنه في إمكانية الرضا وعدم الرضا .
وهناك اتجاه في بعض الأحاديث يفسر الكلمة بسكر النوم وربما كان هذا الاتجاه أقرب إلى قوله تعالى:{حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} مما يوحي بأن الآية واردة في مجال معالجة الجو الروحي الواعي ،الذي ينبغي للمصلي أن يعيشه في حال الصلاة ،بحيث تكون هذه الفقرة دليلاً على صرف اللفظ عن معناه الظاهر بإرادة السكر بمعناه المتصل بسكر الشراب .وعلى ضوء ذلك ،فلا تختص الكلمة بسكر النوم ،بل تمتد إلى كل حالة ذهول وغياب عن الوعي .وإننا لا نجد هناك كبير فائدة في الدخول في عملية الترجيح بين الاتجاهين بشكلٍ حاسمٍ ،ما دام كل منهما منسجماً مع الهدف الأساس من النهي ،وهو الوقوف بين يدي الله في الصلاة في حالة جيّدة من الحضور الواعي ،الذي لا يبتعد فيه الإنسان عن وعي الكلمات التي يقولها ،من حيث معناها ،ومن حيث إيحاءاتها الروحية التي تتصل بموقفه أمام الله .
وفي الجانب الثاني المتصل بالطهارة ؛نهى الله عن الصلاة في حال الجنابة ،وفرض على الجنب الاغتسال ،لأن الطهارة من الحدث الأكبر شرط في صحة الصلاة ،فإذا اغتسل الجنب ،أمكنه أن يبدأ الصلاة ،لأن الجنابة قد تحدث في نفس الإنسان بعض الظلمة الروحية ،أو بعض الشعور بالقذارة بلحاظ المني الذي يخرج منه من الموضع الذي يخرج منه البول ،فكان تشريع الغسل كشرط للصلاة وأمثالها ،من حيث الإيحاء بأجواء الطهارة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها أمام الله عندما يريد أن يرتفع بروحه إليه ،فيكون في طهارة بدنية تنسجم مع الحالة الروحية العميقة التي يعمل على الوصول إليها من خلال الصلاة .
وثمّة ملاحظة وقعت مجالاً للأخذ والرد ،وهي كلمة{إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} .فقد فسرها البعض بحالة السفر .والتزم المفسّر بأن للإنسان أن يصلي مع الجنابة بدون الاغتسال ،ولكن المفسرين الآخرين عارضوها بأن هذا التعبير لا يستخدم غالباً في السفر ؛كما ان الصلاة مع الجنابة في حال السفر أو غيره قد تحدثت عنه الفقرة التالية ،فلا معنى لأن يكون مقصوداً من هذه الفقرة ،لأنه تكرار لا معنى له ؛ولهذا فسّرها هؤلاء بعبور المسجد ؛فإنه لا يجوز للجنب أن يدخل المسجد إلا عابراً .وقد لوحظ على هذا التفسير بأن المسجد لم يذكر في الآية ؛وأجيب عن ذلك: بأن هذا مستوحى من الحديث عن الصلاة باعتبار أنها غالباً ما تكون في المسجد ،فأمكن استيحاء المعنى من ذلك ؛والله العالم .
ثم تحدثت الآية ،في نطاق هذا الشرط ،عن عدة حالات طارئة في حياة الإنسان ،مما لا يستطيع معها الطهارة المائية من الوضوء أو الغسل ؛فأشارت إلى ان هناك بديلاً لهذه الطهارة ،وهي الطهارة الترابية المعبّر عنها بالتيمّم ،فيمكن للمصلّي أن يعيش معها الشعور بالطهارة ،تماماً كما كان يعيشه مع الطهارة بالماء .وهذه الحالات أربع:
1{وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى} فقد يعسر على المريض أن يتوضأ أو يغتسل بالماء ،لأن ذلك قد يضر صحته .ومن الواضح أن جو الآية هو الذي يحدّد لنا أن المرض المذكور فيها هو المرض الذي يضر معه استعمال الماء ،لأن المرض الذي لا يرتبط بذلك ،لا معنى لأن يكون مبرراً للامتناع عن الوضوء أو الغسل ،بعد أن كان حال المريض والصحيح من هذه الناحية على حدٍ سواء ؛فإن الأعذار لا بد أن تكون حالات تمنع عن الشيء الذي يطلب العذر عنه .
2{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ربما كان السفر ملازماً لعدم وجدان الماء ،لا سيما في المناطق الصحراوية التي كانت محل ابتلاء الناس في بدايات التشريع ؛ولذلك يكون الحديث عنه من هذه الجهة ،لا من حيث كونه عنواناً مستقلاً في جواز التيمم .
3{أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ} الغائط هو المكان المنخفض من الأرض ،وقد استعمل هذا اللفظ كناية عما يخرج من فضلات الإنسان من الدبر ،لأن الناس غالباً ما كانوا يقصدون هذه المواضع للتغوّط فيها .وهذه هي إحدى الحالات التي يجب على الإنسان الوضوء بعدها ،إذا أراد الصلاة أو غيرها مما يشترط فيه الطهارة .
4{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَآءَ} الظاهر أن ملامسة النساء هنا ،كناية عن الجماع ،وقد استعمل هذا اللفظ وما يرادفه من اللمس في هذا المعنى .وقد حمله بعض المفسرين على معناه اللغوي من اللمس ،والتزم تبعاً لذلك بانتقاض الوضوء بلمس الرجل للمرأة ببعض أعضائه .وقد عقّب هذه الحالات بكلمة{فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} فلا يجوز للإنسان التيمم إلا في حالة فقدان الماء ،إلا في المريض الذي قامت القرينة الداخليةمما يسميه الأصوليون: ( مناسبة الحكم للموضوع )على أن المانع هو عدم القدرة على استعمال الماء لا عدم وجدانه ،لأننا فهمنا من المرض ،أنه الذي يضر معه استعمال الماء ،كما أشرنا إليه آنفاً .وقد حاول بعض المفسرين أن يجعل كلمة{فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً} شاملة لعدم القدرة الصحية ،بأن يكون المراد من عدم الوجدان عدم القدرة عليه ،وهو تفسيرٌ لا يقترب من ظهور اللفظ ،ولا ضرورة له .{فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} التيمم: القصد ،أي اقصدوا صعيداً طيباً ،والصعيد: هو الأرض .وربما فسّره البعض بالتراب ،ولكن الظاهر من قوله تعالى في آية أخرى:{فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [ الكهف:40] ،كما أن الحديث الشريف: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » يؤكد ذلك ؛وبهذا احتجّ من أجاز التيمّم بالأرض الصخرية التي لا تراب عليها .وكلمة «الطيب » يمكن أن يراد بها الطاهركما هو الظاهروقد وسّعها البعض للمباح ؛ولكن هذا لا يفهم من اللفظ ،لأن هذه الكلمة تستعمل لما يقابل القذر الذي تعافه النفس أو تستقذره .ونحن نقرّ بأن الإباحة شرط ،ولكنه مستفاد من السنّة لا من القرآن بحسب ظاهره الأولي ،إلا أن يقوم دليل على الاستعمال في الأعمّ .
{فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} هذا هو معنى التيمم ؛مسحة للوجه ولليدين .وقد حددت كتب الفقه حدود الموضع الممسوح مع طبيعة الماسح وكيفية المسح .{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} ،فإن الله يعفو ويغفر للمؤمنين الذين يقفون عند حدوده ،في ما يأمر به وينهى عنه ؛فإن الحسنات يذهبن السيئات وهو أرحم الراحمين .