{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم به إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 58 )}
في الآية خطاب للسامعين الذين تلهم أنهم المسلمون بأن الله تعالى يأمرهم بحفظ الأمانات وردها إلى أصحابها .وبالعدل بين الناس إذا حكموهم في مشاكلهم وحكموا بينهم .وأعقب الأمرين تعقيب تنويه بهذه الأوامر وخطورة شأنها ،وتنبيه على أن الله سميع بصير تجب مراقبته في كل موقف وعمل وحال .
تعليق على الآية
( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ) وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ...) الخ .
روى المفسرون روايات عديدة متفقة المدى مختلفة الصيغة في نزول الآية خلاصتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يوم فتح مكة مفتاح الكعبة من سادنها عثمان ابن طلحة ،ودخل إلى الكعبة ،ثم خرج منها فسأله عمه العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بذلك السقاية والسدانة ،فأنزل الله الآية فرد المفتاح إلى عثمان قائلا له: فخذوها يا بني طلحة خالدة مخلدة ،لا ينزعها منكم إلا ظالم وقال له إن الله قد أنزل في شأنه قرآنا وتلا الآية فكان هذا سبب إسلامه .والروايات لم ترد في الصحاح إلا حديث رواه الخمسة عن ابن عمر ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ المفتاح من عثمان ودخل الكعبة وصلى فيها دون ذكر لنزول الآية ،ورد المفتاح إلى عثمان ){[587]} .
ويلحظ أن الآية جاءت في سياق نرجح أنه نزل قبل فتح مكة بمدة غير قصيرة ،ولقد جاء بعد هذه الآية آية فيها أمر للمسلمين بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمر ورد ما يتنازعون فيه إلى الله ورسوله ،ثم آيات بعدها فيها حكاية لموقف وقفه المنافقون فيه صد عن التقاضي عند رسول الله ؛حيث يجعل كل هذا صلة وثيقة بين الآية والآيات التي بعدها فضلا عن أنه لا تفهم أية حكمة في وضع آية في شأن وقع يوم الفتح المكي في هذا السياق .والذي يتبادر لنا نظرا للروايات العديدة التي تروى في مسألة مفتاح الكعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد هذا مفتاح إلى سادن الكعبة بتلقين هذه الآية التي روي أنه تلاها حينئذ ،وأن الأمر التبس مع الرواة أن الآية نزلت حينئذ والله أعلم .
والآية وما بعدها فصل جديد كما هو المتبادر ،ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي .والله
أعلم .
والآية فصل تام لذاتها ،ومن الآيات المحكمة وهذا ما جعلنا نوردها لحدتها .ولقد روى الطبري عن ابن عباس وغيره أنها في صدد تشريع عام بوجوب رد الأمانات والحقوق إلى أصحابها ،والحكم بين الناس بالعدل ،والحق وأن الخطاب فيها موجه لأولي الأمر من المسلمين وهذا سديد وجيه .غير أن إطلاق العبارة في الآية وتوجيه الخطاب بصيغة الجمع أولا ،وموضوعه العام ثانيا ،يجعلان الآية عامة التوجيه والشمول للمسلمين جميعهم عامتهم وحكامهم وأولي الأمر منهم في كل ظرف ومكان على ما هو المتبادر ،ولا سيما إنه يكون أحيانا كثيرة عند الناس أمانات لبعضهم وينتدب أناس أحيانا كمحكمين بين غيرهم ؛حيث يكون في هذا الإطلاق أولا ،وفي تعبير ( الناس ) ثانيا تلقينات جليلة مستمرة المدى من حيث إيجاب العدل وتقريره وحفظ الأمانات والحقوق وردها إلى المسلمين وأولياء أمرهم معا في كل وقت وبقطع النظر عن أي اعتبار وصفة وطبقة ونحلة وملة وجنس .وهذا من طوابع الشرع الإسلامي الخالدة .قد تكرر وروده بهذا الإطلاق في مواضع كثيرة من القرآن .منها ما مر ومنها ما يأتي ،ومما يأتي آيتان في سورة المائدة: إحداهما تأمر المسلمين بأن لا يمنعهم أي عداء وبغضاء بينهم وبين الغير من العدل ،وبأن يكونوا قوامين لله شهداء بالقسط في كل حال ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ( 8 ) وثانيتهما تأمر النبي بالحكم بين اليهود بالقسط إذا حكموه مهما بدا منهم من مواقف الدس والتحريض ( سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) ( 42 ) حيث ينطوي في الآيتين ما قلناه من انطواء الآية التي نحن في صددها على وجوب العدل بين الناس بقطع النظر عن أي اعتبار . ولقد أورد المفسرون بعض الأحاديث النبوية في سياق هذه الآية في صدد العدل في قضاء والأئمة العادلين والجائرين منها ما رواه أصحاب الكتب الخمسة .ومن ذلك حديث رواه مسلم والنسائي عن عبد الله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن المقسطين عند الله على منائر من نور عن يمين الرحمان عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا ){[588]} وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه ( إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأدانهم منه مجلسا إمام عادل .وأبغض الناس إلى الله وأبعدهم منه مجلسا إمام جائر ){[589]} .وحديث رواه الترمذي كذلك عن رسول الله قال ( إن الله تعالى مع القاضي ما لم يجر ،فإذا جار تبرأ الله منه وألزمه الشيطان ){[590]} وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث رواه أبو داود بسند صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ،ثم غلب عدله على جوره فله الجنة ومن غلب جوره على عدله فله النار ){[591]} وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار ) فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ،ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ،ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ){[592]} وحديث رواه أبو داوود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تعظيم لخطورة مهمة القضاء جاء فيه ( من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين ){[593]} .
وينطوي في الأحاديث تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني في واجب العدل بين الناس ،كما ينطوي في الآية والأحاديث تقرير كون ذلك مبدأ محكما من مبادئ الدين الإسلامي الذي يجب على المسلمين وقضائهم وأمرائهم الالتزام به .
والآية احتوت أمر آخر وهو أداء الأمانات إلى أهلها .ولقد علقنا على موضوع الأمانة وخطورتها في كتاب الله وسنة رسوله ،وأوردنا طائفة من الآيات والأحاديث في ذلك سياق تفسير الآيات الأولى من سورة ( المؤمنون ) فلا نرى ضرورة للتكرار ويحسن مراجعة ذلك حين قراءة هذا التعليق لتكون الصورة بارزة للقارئ .
على أن بعض الأئمة نبهوا على معان خاصة في الجملة الواردة في الآية ذلك .وفي تفسير القاسمي نبذة عن الإمام ابن تيمية خلاصتها: أن أداء الأمانات نوعان:
أحدهما: تولية أمور المسلمين إلى أهلها الأصلح لها فإن ذلك أمانة في عنق المسلمين وأولياء أمورهم .وأورد حديثا وصفه بالصحيح أخرجه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا يجد من هو أصلح منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ) وحديثا آخر رواه البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر قيام الساعة ) قيل: يا رسول الله وما إضاعتها ؟قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله ) وأما ثاني نوعي أداء الأمانات فهو أداء المسلم ما اؤتمن عليه من مال وودائع ورهن الخ .وأورد في صدد ذلك أحاديث أوردناها في تعليقنا على آيات سورة ( المؤمنون ) .
وفي تفسير رشيد رضا نبذة طويلة أيضا في صدد هذه الجملة جاء فيها فيما جاء أن أداء الأمانة يشمل بالإضافة إلى أداء مسلم ما اؤتمن عليه العلماء الذين يكون العلم فيهم بمثابة أمانة يجب عليهم أداؤها بما يفيد الناس .وبالأسلوب المفيد ،بحيث يكون مخالفة هذا وذاك خيانة للأمانة .وأورد في صدد ذلك الآية ( 187 ) من سورة آل عمران التي تندد بالذين يكتمون ما أتوا من علم وينبذونه وراء ظهورهم ويشترون به ثمنا قليلا .ويشمل كذلك حفظ الأسرار التي يؤتمن المسلم عليها .ويشمل أمانة المسلم في معاملته مع غيره بصدق وإخلاص وحسن نية وبعد المكر والغش والاحتيال .وكل هذه الأقوال وجيه سديد .وفي الأحاديث النبوية تعليم وتلقين وتحذير واجب الالتزام .
ولم يترك مفسرو الشيعة هذه الآية ؛حيث رووا عن بعض الأئمة أنها تعني أمانة الحكم والولاية للأئمة وأمر الله بتسليمها إليهم ؛لأنهم أهلها .والتكلف والتعسف والهوى يطبع هذه الرواية كما هو ظاهر{[594]} .