{إِنَّ هَؤُلاء لَيَقُولُونَ ( 34 ) إِنْ هِيَ إِلا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ( 35 ) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 36 ) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ( 37 ) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ( 38 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 39 )} [ 34 – 39] .
في الآيات حكاية لما كان يقوله الكفار في إنكار البعث حيث كانوا يقولون إننا سنموت موتة أبدية لن نقوم بعدها .ثم يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينذرهم بالبعث طالبين منه الإثبات بآبائهم أي إحيائهم إن كان صادقا في إنذاره ،ورد عليهم بصيغة التساؤل الإنكاري عما إذا كانوا هم خير وأقوى من قوم تبع ومن قبلهم من الأمم التي أهلكها الله تعالى ؛لأنها وقفت موقف الكفر والإنكار .وتنبيه على أن الله سبحانه لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما عبثا ولعبا وإنما توخى بذلك الحق والحكمة ولو لم يفهم هذه الحقيقة أكثر السامعين .
وواضح أن الآيات عودة على بدء في حكاية أقوال ومواقف الكفار والتنديد بهم وإنذارهم ،كما أن فيها صورة الجدل واللجاج التي كانت تقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار ،فهي والحالة هذه استمرار للسياق .
وقد يلوح أن اختصاص قوم تبع بالذكر هنا متصل بما كان معلوما عند السامعين من ملك تبابعة اليمن وقوتهم وعظمة شأنهم .ولقد أورد المفسرون{[1887]} في سياق هذه الآيات بيانات غير يسيرة من ذلك معزوة إلى علماء الصدر الإسلامي الأول فيها المعقول وغير المعقول ،وفيها الدلالة على كل حال على ما كان مستقرا في أذهان السامعين من ذلك .ولقد سبق تعريف بتبع وقومه في سياق سورة ( ق ) فلا نرى ضرورة للتكرار .ولقد أورد المفسرون في صدد هذه الآيات بعض الأحاديث عن إسلام تبع فلم نر بأسا في إيرادها إتماما للصورة ،مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة .منها حديث رواه الإمام أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس وسهل بن سعد الساعدي بطرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم ) وحديث رواه أبو حاتم الرقاشي أن عائشة كانت تقول: ( لا تسبوا تبعا فإنه كان رجلا صالحا ) .
ولقد عقب الطبري والبغوي على جملة{مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} بأنها تعني للاختبار في الدنيا للثواب على الطاعة والعقاب على المعصية .ومع أن معنى التعقيب قد ورد نصا في بعض الآيات مثل آية سورة المؤمنون هذه:{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ( 115 )} وآية سورة الملك هذه:{الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور( 2 )} .فإن الجملة وهي في صدد السماء والأرض ،وفيهما الإنسان وغير الإنسان من مخلوقات الله الحية وغير الحية ،وفيهما نواميس كونية عظمى تتضمن فيما يتبادر لنا تقريرا أشمل من كون ذلك لاختيار الإنسان وحسب .وفي سورة الجاثية آية جاء فيها:{وخلق الله السماوات والأرض بالحق ،ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ( 22 )}حيث ينطوي فيها تقرير كون ذلك من جملة الحق الذي توخاه الله تعالى من خلق السماوات والأرض وليس كله والله أعلم .
تعليق على آية
{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 36 )}
وهذه أول مرة يأتي تحدي الكفار فيها بما حكي عنهم في هذه الآية ،فقد حكت آيات عديدة في السور السابقة إنكارهم للبعث بعد موتهم هم وآباؤهم بعد أن يصبحوا رفاتا وعظاما ورميما ويمزقون كل ممزق ،فكان القرآن يرد عليهم مبرهنا بقدرة الله تعالى على إحيائهم ثانية بما هو ماثل أمام أعينهم من مشاهد قدرة الله وعظمته وملكوته ،وينبههم إلى أن الذي خلقهم بدءا قادر على خلقهم إعادة ،ويضرب لهم الأمثال بالأرض الميتة الخامدة التي يحييها بالمطر .فجاءوا الآن يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطلب البرهان على ذلك بإحياء أبائهم في الدنيا حتى يروهم ويكلموهم .وقد اقتضت حكمة التنزيل بالرد عليهم بما كان من إهلاك المجرمين أمثالهم من قوم تبع ،ومن قبلهم ممن يعرفون قصصهم وهم أقوى منهم .وأن الذي أنزل في المجرمين السابقين التدمير والعذاب قادر عليهم ،وبأن الله سبحانه لا يعقل أن يكون قد خلق السماوات والأرض عبثا ولعبا ولا بد من أن يكون لذلك حكمة ،منها بعث الناس ومحاسبتهم على أعمالهم وتوفيتهم الجزاء عليها .
ويتبادر لنا أن الرد الرباني جاء بالأسلوب الذي جاء به ليتسق مع مشيئة الله بعدم إجابتهم إلى التحدي الذي كان الكفار يتحدون به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإتيان بالمعجزات للبرهنة على صحة رسالته وصلتها ،وصلة القرآن بالله عز وجل على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثر ؛لأن طلبهم الإتيان بآبائهم هو معجزة يطلبونها بأسلوب التحدي فلم تقتض مشيئة الله إجابتهم عليها مع دخولها في نطاق قدرته كما كان الشأن في مواقف تحديهم المتكررة .