{وإذ صرفنا 1 إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي 2 ولوا إلى قومهم منذرين 29 قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم 30 يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم 31 ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين 32} [ 29-32] .
1 صرفنا: وجهنا أو بعثنا .
2 فلما قضي: فلما انتهى .
في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجن للقرآن ،وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها ،وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر .
تعليق على آية
{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن}
وما بعدها
ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث ،منها أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا ،فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها ،ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء ،وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه ،فقال:"اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي ،إلى من تكلني ؟إلى بعيد يتجهّمني ،أو إلى عدو ملكته أمري ،إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي ،ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك ،لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلي مر به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك{[1]} .وسألوه الزاد فقال: ( كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر .ما كان لحما ،وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجن ){[2]} .ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما: ( قيل لعبد الله: من آذان النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟قال: ( آذنت بهم شجرة ){[3]} .وجاء في ثانيهما:"قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بال العظم والروث لا يستنجى بهما ؟قال: هما من طعام الجن ،وإنه قد أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليه طعاما ){[4]} .ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني أُمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني ؟فأطرقوا ،ثم استتبعهم فأطرقوا ،ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا .فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخط على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود: فجعلت تهوي به وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ،وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله تلا القرآن ،فلما رجع قلت: يا نبي الله ،ما اللغط الذي سمعت ؟قال: اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق ) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود{[5]} يبدوا أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال: نعم ،رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاعَ والمتاعُ الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة ) ،وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا: ( قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا .فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ) .وفي رواية عن ابن عباس{[6]} أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماؤهم: حَسى وحَسى ،ومَنسى ،وساصر ،وناصر ،والأردوبيان ،والأحتم ،وزوبعة .وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس .وأن الجن كانوا ثلاثة صنوف منهم على صفة الطيور ،ومنهم على صفة الحيات والكلاب ،ومنهم من يحلون ويظعنون{[7]} .وفي رواية عن ابن عباس{[8]} جاء فيها: لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا ،فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا: هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون:"يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به".
وتعليقا على ذلك نقول: إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح ومنها ما لم يرد .وفي جميعها غرائب وتناقضات ،ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجن ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجن وهذا الحادث واحد{[9]} .مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين– ربما كانت بضع سنين – ومع أن فحوى آيات كل من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند ،ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد ،وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه ؛وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير .
وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهبت لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته ،وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم أحد .والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به ،ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به .هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع ،في حين أن آية سورة الأعراف هذه:{إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [ 27] تفيد أن الإنس لا يرون الجن{[10]} .
ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما أوحي إليه .قول الجن .وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه:"إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم".حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة .
ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجن بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث ،والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين ،وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية .وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية .فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم .واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم ،فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه .فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيتهوصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحق فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين .وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا موضوعا أيضا .
وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته .فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوئ المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها .ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال: إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك .ولد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [ 35] من سورة ( ص ) فيه خبر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعفريت من الجن أيضا .ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا ،والله تعالى أعلم .
هذا ،ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه – على الدين النصراني .وهذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني ،فلقد آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة ،منها القصص والإسراء ،وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم ،وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك ،فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة .