تنقل كتب التفاسير أكثر من قصة عن ذلك كسبب من أسباب النزول ،نختار منها ما نقله صاحب الميزان عن تفسير علي بن إبراهيم القمي كنموذجٍ لذلك ،قال: كان سبب نزول هذه الآيات أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) خرج من مكة إلى سوق عكاظ ،ومعه زيد بن حارثة ،يدعو الناس إلى الإسلام ،فلم يجبه أحد ولم يجد أحداً يقبله ،ثم رجع إلى مكة ،فلما بلغ موضعاً يقال له: وادي مجنّة[ 1] ،تهجّد بالقرآن في جوف الليل ،فمرّ به نفر من الجن ،فلما سمعوا قراءة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) استمعوا له ،فلما سمعوا قرآنه ،قال بعضهم لبعض:{أَنصِتُواْ} ،يعني اسكتوا ،{فَلَمَّا قُضِيَ} أي فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) من القرآن ،{وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُواْ يا قَوْمَنا} إلى آخر الآيات .
فجاءوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) وأسلموا وآمنوا ،وعلَّمهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) شرائع الإسلام ،فأنزل الله عز وجل على نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ):{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مّنَ الْجِنّ} ( الجن: 1 ) السورة كلها ،فحكى الله قولهم وولّى عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) منهم ،وكانوا يعودون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) في كل وقت[ 2] .
الجن يستمعون القرآن ويتحوّلون إلى دعاة
هذا ويتحدث كتاب الله عن الجن بشكل متنوّع ،ويضع لوجودهم وطبيعتهم خطوطاً عامّة ،لا تسمح للخرافة التي حفلت بها قصص الجن في التراث العربي أن تقترب منها ،فهم مخلوقاتٌ عاقلةٌ ،لا تظهر عياناً للناس بشكلٍ مباشرٍ ،وفيهم شياطين يوسوسون للناس بطريقتهم الخاصة ،كما يوسوس شياطين الإنس للناس ،وفيهم مؤمنون يعبدون الله ويخافونه ويدعون إليه ،كما يذكر القرآن أنهم كانوا يقعدون مقاعد ليسمعوا أخبار السماء ،فمنعهم الله من ذلك ،ما يوحي بقدرتهم الذاتية على الانطلاق في الفضاء .
وهذا حديثٌ عن نفرٍ من الجنّ الذين استمعوا إلى القرآن ،فآمنوا به ،وتحوّلوا إلى دعاةٍ للإيمان وللإسلام في قومهم ،بطريقةٍ روحيةٍ رائعة .
{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} أي وجّهناهم إليك بإثارة انتباههم وتفكيرهم نحوك ،حتى بدأوا يفكرون بموقعك الرسالي الذي يفتح للعقل آفاقاً جديدة من التفكير ،ويضع للحياة خططاً جديدةً من التشريع ،ما جعلهم ينطلقون في ملاحقة الموضوع من موقع المسؤولية ،{فَلَمَّا حَضَرُوهُ} في الموقع الذي يمكّنهم من الاستماع إليه ،{قَالُواْ أَنصِتُواْ} حتى نعي مضمون الكلمة بدقةٍ ووعيٍ وإيمان .{فَلَمَّا قُضِيَ} وانتهى الرسول من التلاوة ،واستوعبوا ما سمعوه بشكل كامل ،وآمنوا بأنه الحق الذي يجب أن يلتزمه الناس فكراً وعملاً ،{وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} لأن الإيمان ،في معناه الحركي ،يفرض الدعوة إليه ،فهو ليس حالةً خاصةً بحيث يختزنه الناس في ذواتهم ،بل هو رسالةٌ عامةٌ تدفع الناس إلى دعوة الآخرين إليه ،ليؤمنوا به ،بحيث يتوسع امتداده في الحياة .