{ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى( 31 ) الذين يجتنبون كبائر الإثم1 والفواحش إلا اللمم2 إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة3 في بطون أمهاتكم فلا تزكوا4 أنفسكم هو أعلم بمن اتقى( 32 )} [ 31-32] .
وفي الآيات تقرير لشمول علم الله وحكمته وإحاطته بأحوال الناس منذ بدء خلقتهم ،ومعرفته محسنهم ومسيئهم ،وقدرته على جزاء كل منهم حسب عمله .وفيها تنويه بأصحاب الأعمال الحسنة الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ،وتأميلهم بغفران ما يلمون به من هفوات وأخطاء ،فإن الله واسع المغفرة .
والصلة ملموحة بين هذه الآيات وسابقاتها .فتلك تضمنت التنديد بعقائد العرب الجاهلية واتباعهم الظن والهوى وتبجحهم بأنهم على الحق ،وهذه تضمنت تعقبيا وتوضيحا وتنبيها .
تعليق على اجتناب كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم
وفي الآية الأولى توكيد لتقريرات سابقة بأن الله سيحاسب الناس على أعمالهم الحسنة والسيئة وسيجزيهم عليها ،ويتضمن هذا توكيد تقرير قابلية الإنسان للكسب ومسؤوليته عن كسبه .
ومما لا ريب فيه أن هذه التقريرات والتوكيدات المتكررة مما يفيد فائدة كبيرة في تربية النفس وجعل المرء يفكر قبل إقدامه على أي عمل في عواقب ما هو مقدم عليه .
ولقد تعددت الأقوال في تأويل"اللمم "المستثنى في الآية الثانية حيث قيل: إنه الذنب الذي يتوب عنه فاعله أو صغائر الذنوب أو الذنب الذي لم يذكر الله عليه حدا ولا عذابا أو ما يخطر على القلب من ذنوب أو ما ليس عادة متكررة أو النظرة غير المتعمدة أو القبلة والغمزة والنظرة .والذي نرجحه هو أنه صغائر الذنوب والهفوات التي لا يمكن للطبيعة البشرية أن تتفاداها .ولقد روى الترمذي في صددها{[2039]} أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:
"إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألمّا "
مما فيه تدعيم لذلك .وعلى هذا تكون الآية الثانية قد احتوت مبدأ قرآنيا جليلا متمشيا مع الوقائع وطبائع الأمور .فالناس بسبب ما فيهم من غرائز تسوقهم إلى ما يرون فيه نفعهم وتدفعهم عما يرون فيه من ضرر لا يمكن أن يكونوا معصومين من الوقوع في الأخطاء واقتراف الذنوب والانحراف .غير أن من هذه الذنوب والأخطاء والانحرافات ما يكون كبائر وفواحش ،ويكون مخالفته لحقوق الله وضرره العظيم للناس واضحا لا يدق عن الأفهام بصورة عامة ،ومنه الهفوات التي قد تبدر عن حسن نية أو غفلة أو تقصير غير متعمد فيه الضرر والإثم والمخالفة .أو التي يكون ضررها محدودا ضئيلا .ومنه كذلك خلجات النفس الآثمة التي تظل في القوة ولا تخرج إلى حيز الفعل .فالواجب المحتم على الناس أن يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش على كل حال ،ولا يمكن أن يعذروا على اقترافها .أما تلك الهفوات والأخطاء والإلمامات العابرة والخلجات التي لا تخرج إلى نطاق الفعل فإن الله عز وجل يشملها بعفوه وغفرانه إذا كانت صدرت من صاحبها عن نية حسنة أو غفلة أو تقصير أو اضطرار ولم يكن ضررها كبيرا ،وكان صاحبها مؤمنا مجتنبا للكبائر .
وفي سورة النساء آية فيها هذا المعنى بأسلوب إيجابي قوي داعم لما قررناه وهي:{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما31} حيث يتساوق التلقين القرآني المدني مع التلقين القرآني المكي تساوقا رائعا قويا .
وفيما جاء في الآية نفسها من التنبيه إلى عدم التبجح والدعاوى الفارغة وتزكية النفس بغير حق تلقين جليل في صدد تربية النفس وجعل صاحبها يعرف حدوده ،ويعرف أن الله لا تخفى عليه خافية فتزعه هذه المعرفة عن الخيلاء والغرور وتبعده عن الخداع والتضليل .
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآية [ 32] مدنية في حين أنها متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا قويا نظما وموضوعا .وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية .
ولقد روى مسلم والترمذي عن النواس الأنصاري حديثا نبويا فيه تعريف للإثم جاء فيه: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: البر حسن الخلق ،والإثم ما جال في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه ){[2040]} .غير أن الكلمة في مقامها تعني كما هو المتبادر الذنب المقترف بصورة عامة .ولقد وردت الكلمة في هذا المعنى في آيات عديدة مكية ومدنية مثل آية سورة الأعراف هذه:{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون33} وآية سورة الأنعام هذه:{وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون120} وآية سورة المائدة هذه:{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [ 2] وآية سورة النور هذه:{لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم} [ 11] ؛حيث يبدو من هذا أن الحديث النبوي إنما احتوى تعريفا بأخف مظاهر الإثم لينبه على أن هذا المظهر مكروه عند الله ومؤاخذ عليه فيكون ما هو أكبر منه أكثر كراهية ومؤاخذة .
على أن جملة{كبائر الإثم والفواحش} في مقامها تعني الذنوب الكبيرة كما هو المتبادر .وهناك أحاديث نبوية عديدة في وصف هذه الذنوب .وأكثرها متماثل بخلاف يسير ومنها المرفوع ومنها المتصل ،ومنها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة بوصف الموبقات .ومما ذكر فيها الشرك بالله .وأكل مال اليتيم ،وأكل الربا وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف واستحلال البيت الحرام ،وشهادة الزور وعقوق الوالدين وشرب الخمر والسحر والبهتان والقتل وترك الصلاة واليمين الغموس والزنا واستطالة المسلم في عرض رجل مسلم بغير حق .والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والسرقة والغلول ومنع فضول الماء والتعرب بعد الهجرة- أي العودة إلى الأعراب والبادية .وهناك من قال: إن الكبائر كثيرة قد يصل عددها إلى سبعين ،بل وإلى سبعمائه{[2041]} .
وهذه بعض نصوص الأحاديث النبوية الواردة في ذلك ،فمن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن ؟قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ){[2042]} .وحديث رواه الطبري بطرقه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري قالا: ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: والذي نفسي بيده ثلاث مرات ،ثم أكب ،فأكب كل رجل منا يبكي لا يدري على ماذا حلف ،ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حمر النعم فقال: ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ،ويصوم ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل: ادخل بسلام ) .
وحديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بأكبر الكبائر ؟قالوا: بلى يا رسول الله .قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور أو قول الزور .قال: فما زال يقولها حتى قلنا ليته سكت ){[2043]} .
وحديث أورده ابن كثير عن عميرة بن قتادة قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ألا إن أولياء الله المصلون من يقيم الصلوات الخمس التي كتب الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق ،ويعطي الزكاة من ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها فسأله رجل يا رسول الله ما الكبائر ؟قال: تسع ،الشرك بالله وقتل النفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ) .
وهناك نصوص عديدة أخرى في كتب التفسير ،وبخاصة في تفسير ابن كثير لا تخرج عن نطاق ما أوردناه فنكتفي بما أوردناه .وننبه على كل ما ورد في الأحاديث مما نهى القرآن وشدد فيه الإنذار والوعيد .ويبدو من تنوع الكبائر في الأحاديث أنها لم تذكر على سبيل الحصر ،وفي القرآن كبائر لم تذكر في الأحاديث مثل الكذب والميسر والظلم والنفاق والفساد في الأرض مثلا .
والأحاديث الواردة في هذا الصدد مما أوردناه ولم نورده هي على الأرجح على ما يدل عليه أنواع الكبائر المذكورة فيها وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني ؛حيث يمكن القول إن الجملة التي نحن في صددها والتي نزلت في وقت مبكر من العهد المكي قد قصدت كل ذنب كبير إطلاقا مما فيه تقرير مبدئي .وهذا من سمات القرآن المكي ،أما التنوع الملحوظ في الأحاديث فالمتبادر أنه متصل بالظروف التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من الحكمة أن ينبه أو ينهى عما جاء فيها ،والله تعالى أعلم .