{ولله ما في السماوات وما في الأَرض}يقول علماء البلاغة: إنه إذا تقدم شيء حقه التأخير فهو دليل على الحصر والتخصيص ،فلننظر في هذه الآية هل فيه تأخير وتقديم:{ولله ما في السماوات وما في الأَرض} ( لله ) خبر مقدم ( وما في السموات ) مبتدأ مؤخر ،إذاً قدم فيها ما حقه التأخير وهو الخبر ؛لأن حق الخبر أن يكون متأخراً عن المبتدأ .تقول: الرجل قائم ولا تقول: قائم الرجل ،فالأصل أن المبتدأ على اسمه يكون هو الأول والخبر هو الثاني ،لكن أحياناً يقدم الخبر لفائدة ،فهنا الفائدة: الحصر يعني: لله لا لغيره{ما في السماوات وما في الأَرض} ولا أحد يملك ما في السماوات ولا ما في الأرض إلا الله تبارك وتعالى ،ونحن نملك ما نملك من أموالنا ولكن ملكنا ليس عاماً ،فملكي ليس ملكاً لك ،وملكك ليس ملكاً لي ،فأملاكنا ليست عامة ،ثم نحن لا نملك التصرف بما هو ملكنا كما نشاء ،فتصرفنا محدود حسب الشريعة ،ولهذا لو تراضى اثنان في بيع الربا قلنا: لا تملكان ذلك ،ولو أراد الإنسان أن يحرق ماله قلنا: هذا ممنوع ،فملك غير الله قاصر ،وغير شامل ،والملك التام الواسع الشامل لله - عز وجل - ولهذا قال:{ولله ما في السماوات وما في الأَرض} فهو مالك لذواتهما ،ومالك لما فيهما أيضاً ،وكم من ملك في السماوات ،وكم من مخلوق في الأرض كله ملك لله - عز وجل - يتصرف فيه كما يشاء حسب ما تقتضيه حكمته ،وإيماننا بأن لله ملك السماوات والأرض يفيد فائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: الرضى بقضاء الله ،وأن الله عز وجل لو قضى عليك مرضاً فلا تعترض ،ولو قضى عليك فقراً فلا تعترض ،لأنك ملكه يتصرف فيك كما يشاء ،فهو كما يتصرف في السحاب يمطر أو لا يمطر ،يمضي أو لا يمضي ،ويتصرف في الشمس والقمر ،ويتصرف في المخلوقات ،يتصرف فيك أيضاً كما يشاء ،إن شاء أعطاك صحة ،وإن شاء سلبها ،إن شاء أعطاك عقلاً ،وإن شاء سلبك ،إن شاء أعطاك مالاً ،وإن شاء سلبك ،أنت ملكه ،فإذا آمنت بهذا رضيت بقضائه .
الفائدة الثانية: الرضا بشرعه وقبول شرعه والقيام به ،لأنك ملكه ،إذا قال لك: افعل .فافعل ،وإذا قال: لا تفعل .فلا تفعل ،أرأيت لو كان لك عبد رقيق فأمرته ،ولكنه لم يفعل ،أو نهيته ففعل ،فالسيادة ناقصة ،إذاً أنت إذا عصيت ربك: إما بفعل محرم وإما بترك واجب ،فإنك خرجت عن مقتضى العبودية التامة ؛لأن مقتضى العبودية التامة أن تخضع لشرعه ،كما أنك خاضع كرهاً أو طائعاً لقضائه وقدره ،فانتبه ليس معنى قوله تعالى:{ولله ما في السماوات وما في الأَرض} أن يخبرنا أنه مالك فقط ،لكن لأجل أن نعتقد مقتضى هذا الملك ،وهو الرضا بقضائه ،والرضا بشرعه ،هذه حقيقة الملك .{ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} جاءت كلمة{ليجزى} كأن قائلاً يقول: وإذا تبين أن الملك لله - عز وجل - فما النتيجة ؟النتيجة أن الناس بين محسن وبين مسيء كما قال - عز وجل -:{هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} وإذا كانوا بين محسن ومسيء فما جزاء كل واحد{ليجزى الذين أساءوا بما عملوا} الذين أساءوا هم الذين خالفوا المأمور أو ارتكبوا المحظور ،هؤلاء الذين أساءوا ليجزيهم بما عملوا ،السيئة بالسيئة لا تزيد ،أو يعفو - عز وجل - عمن يستحق العفو ،وهو كل من مات على غير الشرك{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلا يمكن أن يزيد سيئة لم يعملها الإنسان ،ولهذا قال:{ليجزى الذين أساءوا بما عملوا} .بدون زيادة{ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} ولم يقل: بما عملوا ،لأن فضل الله أوسع من أعمالنا ،يجزي الذين أحسنوا بالحسنى ،فأنت إذا فعلت حسنة فتكون عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ،ونضرب مثلاً قريباً ،الصلاة المفروضة عندما تتوضأ وتسبغ الوضوء ثم تخرج إلى الصلاة لا يخرجك من بيتك إلا الصلاة فما الثمرات التي تحصل عليها ؟كل خطوة تخطوها يرفع الله لك بها درجة ،ويحط عنك بها خطيئة ،فخطواتك لا يحصيها إلا الله عز وجل ،مع أن المقصود شيء واحد وهو الصلاة ،لكن سعيك إلى الصلاة فيه أجر مادمت خرجت من بيتك لا يخرجك إلا الصلاة ،وتأهبت في بيتك ،أسبغت الوضوء في بيتك ،فأنت لا تخطو خطوة إلا رفع الله لك بها درجة ،وحط عنك بها خطيئة ،والخطوات لا يحصيها إلا الله ،ثم إذا وصلت المسجد وصليت ما شاء الله ،ثم انتظرت الصلاة ولو تأخر مجيء الإمام لصلاة الجماعة يكتب لك أجر المصلي ،«لا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة »،وهذا أحسن من أعمالنا ولهذا قال:{ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى} أي بما هو أحسن وأكثر من عملهم ،وهذا يدلك على سعة فضل الله - عز وجل - وإحسانه وكمال عدله .فالمسيئون يجازيهم بالعدل أو يعفو ،والمحسنون يجازيهم بالفضل