ثم ذكر شيئاً من أوصافهم فقال:{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم} أي: يبتعدون عنه ،وسمي الابتعاد اجتناباً ؛لأن الإنسان في جانب ،والذي أبعد عنه في جانب آخر ،فيبعدون ،ولا يتصلون بكبائر الإثم والفواحش إلا اللمم{كبائر الإثم} كبائر جمع كبيرة ،والكبيرة بعض العلماء عدها ،وبعض العلماء حدها ،والصواب الحد ،أي أنها محدودة وليست معدودة ،والذين ذكروا عدداً الظاهر - والله أعلم - أنهم أرادوا المثال ،فمثلاً إذا قال الإنسان: هي الشرك بالله ،والسحر ،وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ،والتولي يوم الزحف ،وقذف المحصنات المؤمنات ،وأكل الربا ،وأكل مال اليتيم ،هذه سبع ،إذا قال الإنسان هذه هي الكبائر ليس معنى قوله إنها محصورة في هذا ،إذ من الممكن أن يحمل كلامه أن ذلك على سبيل التمثيل فقط ،أما الذين حدوها يعني جعلوا له ضابطاً .فقالوا في ضابطها: ( كل ذنب رتب الله عليه لعنة ،أو غضباً ،أو سخطاً ،أو تبرأ منه ،أو ما أشبه ذلك فهو كبيرة ) ،ورأيت لبعضهم ومنهم شيخ الإسلام - رحمه الله - أنه قال: ( كل ذنب جعلت له عقوبة خاصة إما في الدنيا ،أو في الآخرة فهو كبيرة ) ،فالزنا كبيرة ،لأن فيه عقوبة وهو الجلد أو الرجم ،والسرقة كبيرة ،وقطع الطرق كبيرة ،وعقوق الوالدين كبيرة ،وهلم جرا ،فكلما رأيت شيئاً من الذنوب جعل الشارع له عقوبة خاصة فهو كبيرة ،أما الذنب الذي نهى عنه فقط فهو صغيرة: كنظر الرجل للمرأة الأجنبية للشهوة ،هذا ليس كبيرة هو صغيرة من الصغائر ،لكن إن أصر الإنسان عليه وصار هذا ديدنه ،صار كبيرة بالإصرار لا بالفعل .ومكالمة المرأة الأجنبية على وجه التلذذ حرام وليس بكبيرة ،ولكن إذا أصر الإنسان عليه وصار ليس له هم إلا أن يشغل الهاتف على هؤلاء النساء ويتحدث إليهن صار كبيرة ،فالإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة من حيث الإصرار ،لأن إصراره على الصغيرة يدل على تهاونه بالله - عز وجل - ،وأنه غير مبال بما حرم الله ،وقوله:{والفواحش} أي: كبائر الكبائر ،لأن الكبائر منه ما هو فاحش يستفحش ويستعظم ويستقبح بشدة ،ومنها ما هو دون ذلك ،فمثلاً الزنا فاحشة{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} واللواط فاحشة أعظم من الزنا ،لأن الله قال في الزنا:{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً} وقال في اللواط:{أتأتون الفاحشة} فأتى بأل الدالة على القبح ،وأنها جامعة لكل أنواع الفواحش ،ونكاح المحارم فاحشة ،قال الله تعالى:{ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً} فهو أشد من الزنا ،فلو زنا الإنسان بامرأة أجنبية منه ،وبأم زوجته مثلاً صار زناه بأم زوجته أعظم وأشد وأشنع ،ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن من زنا بامرأة من محارمه وإن لم يكن محصناً فإنه يرجم ،لأن الله فرق بين الزنا وبين نكاح ذوات المحارم فالزنا بذوات المحارم وصفه الله تعالى:{إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً} والزنا وصفه بوصف بواحد وهو:{إنه كان فاحشةً} وجاءت السنة بالتفريق بين من زنا بامرأة من محارمه أو بامرأة أجنبية ،فجعلت حد الأول القتل بكل حال ،وإن لم يتزوج وإن لم يكن ثيباً ،لأن هذا أعظم والعياذ بالله ،إنسان يزني بأمه أو أخته أو أم زوجته ،أو بنت زوجته التي دخل بها هذا فاحشة عظيمة ،إذاً هم يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ،والفواحش كبائر الكبائر وأعظم ،ونأخذ من هذه الآية الكريمة أن الكبائر والفواحش تختلف ؛لأن كبائر وصف كل ما كان أعظم صار أشد كبيرة ،والفواحش كذلك ،وفيما سقناه من الآيات دليل على ذلك:{ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً}{ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً}{أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين} ففرق الله بينها ،مع أنها كلها فواحش ،لكن بعضها أعظم من بعض .
قوله:{إلا اللمم} قيل: إنه استثناء متصل .وقيل: إنه استثناء منقطع ،لأن اللمم الشيء القليل ،فهل المعنى إلا الشيء القليل من الكبائر ،أي أنهم يأتون الشيء القليل من الكبائر ،أو المعنى إلا الصغائر من الذنوب .إن قلنا بالأول ،فالاستثناء متصل ،وإن قلنا بالثاني ،فالاستثناء منقطع .وتكون بمعنى لكن ،والمعنى الثاني أقرب من حيث التقسيم ،لأن الله ذكر الكبائر والفواحش والصغائر ،وعلى هذا فيكون معنى{إلا اللمم} يعني: أن هؤلاء الذين أحسنوا يأتون الصغائر ،والصغائر والحمد لله مكفرة بالحسنات ،قال الله تعالى:{إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئتكم} وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الصلوات الخمس ،والجمعة إلى الجمعة ،ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر،وقال عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما »،وعلى هذا فيكون المعنى أن الصغائر تقع مكفرة إما باجتناب الكبائر ،أو باجتناب الكبائر مضموماً إليها فعل هذه الحسنات العظيمة: الصلوات الخمس ،والجمعة إلى الجمعة ،ورمضان إلى رمضان ،والخلاصة أن الصغائر التي تقع مغفورة للإنسان إذا اجتنب الكبائر ،وإذا أحسن في الصلوات الخمس والجمعة ورمضان{إن ربك وسع المغفرة} في هذه الجملة إشارة إلى قوله:{إلا اللمم} يعني أن اللمم يقع في سعة مغفرة الله - عز وجل - فيغفره الله - عز وجل - والمغفرة هي ستر الذنب مع التجاوز عنه ،ولا يكفي ستر الذنب بل لابد من تجاوز ،والدليل على هذا أمران: لغوي وسمعي ،أما اللغوي فلأن المغفرة مشتقة من المغفر ،والمغفر وهو ما يوضع على الرأس عند القتال ويسمى خوذة ،ويسمى بيضة ،يوضع على الرأس ليتقي السهم .هذا الذي يوضع على الرأس جمع بين أمرين الوقاية والستر ،فإذا المغفرة لابد من ستر ووقاية ،وأما السمعي فهو أن الله تبارك وتعالى إذا خلا بعبده المؤمن يوم القيامة وقرره بذنوبه وأقر قال: «قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم »فدل هذا على أن الوقاية من الذنوب وعدم المؤاخذة من المغفرة ،نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا وما تأخر .
وفي قوله تعالى:{إن ربك واسع المغفرة} إشارة إلى أن الصغائر تغفر ،وقد ثبت في القرآن الكريم أن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر ،فقال جل وعلا:{إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} .ولهذا قال:{إن ربك واسع المغفرة} أما إذا قلنا: اللمم القليل من الفواحش والكبائر ،فيكون قوله:{إن ربك واسع المغفرة} إشارة إلى أن الكبائر إذا تاب الإنسان منها غفر الله له ،وكأنها لم تكن ،وإن لم يتب منها فهو تحت المشيئة: إن شاء غفر الله له ،وإن شاء عاقبه بما يستحق ،هذه الكبيرة ،وللأسف يوجد قوم من هذه الأمة يقولون: إن الكبيرة لا تغفر ،وهم الخوارج والمعتزلة يقولون: إن الإنسان إذا فعل كبيرة خرج من الإيمان ،لكن الخوارج يقولون: خارج من الإيمان داخل في الكفر .والمعتزلة يقولون:خارج من الإيمان غير داخل في الكفر بل هو في منزلة بين منزلتين ،لكن قولهم باطل ،والصواب: أن فاعل الكبيرة داخل تحت قوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فلو قال قائل: إذا قلت هذا فتحت الباب على مصراعيه لفعل الكبائر ،لأن أي إنسان يفعل كبيرة ويقول: أنا يمكن أن يغفر الله لي ،وهذا يحتج به العوام ،يقول: إذا كان الله يقول:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أي ما دون الشرك لمن يشاء ،إذاً سأفعل الكبائر ،ويغفر الله لي ،فهذه حجة فكيف تجيبه ؟
نجيبه: أن الله تعالى قال:{ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ولم يقل لكل أحد بل قال:{لمن يشاء} فهل أنت تتيقن أنك ممن يغفر الله له ،أأحد يتقين هذا ؟لا أحد يتيقن ،إذاً لا حجة في هذه للعاصي ،ثم إن قوله تعالى:{لمن يشاء} نعلم أن الله حكيم ،لا يشاء أن يغفر للمذنب غير الشرك إلا إذا اقتضت الحكمة أن يغفر ذلك ،ومن منا يستطيع أن يقول إن حكمة الله تقتضي أن يغفر لي ؟لا أحد يقول هذا ،بل لو قال هذا لقلنا: إن قولك هذا من أسباب المؤاخذة والمعاقبة ؛لأنك تأليت على الله .
ثم قال - عز وجل -:{هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأَرض} أعلم بنا من ذاك الوقت الطويل البعيد{إذ أنشأكم من الأَرض} ،أي بخلق أبينا آدم ،لأن آدم خلق من التراب ،ثم صار طيناً ،ثم صار صلصالاً ،ثم خلقه الله بيده جسماً ونفخ فيه الروح ،فصار آدميًّا إنساناً ،هذا معنى قوله تعالى:{إذ أنشأكم من الأَرض} ،إذاً نحن من الأرض أول نشأة:{منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى} أي الإخراج الذي ليس بعده وفاة يوم القيامة ،ولذلك الآن بنو آدم كالأرض تماماً ،فيهم الحزم الصلب الشديد ،وفيهم السهل ،وفيهم ما بين ذلك ،وفيهم الأبيض ،وفيهم الأحمر ،وفيهم الأسود ،لأن الأراضي تختلف ،هكذا ،وقد ذُكر أن الله لما أراد أن يخلق آدم أخذ من كل الأرض سهلها وحزنها ،وأسودها وأبيضها كلها:{وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} هذه النشأة الثانية ( أجنة ) جمع جنين وهو الحمل ،وسمي الحمل جنيناً ،لأنه مستتر{وإذ أنتم أجنة} أي مستترين{في بطون أمهاتكم} ،أي من حين كان الإنسان نطفة ،ومن النطفة يخلق ،وهذا معنى قوله:{ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين} فمن حين يكون نطفة يكون جنيناً ثم يتطور أربعة ،أولاً: نطفة ،ثم علقة ،ثم مضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة ،ثم أنشأناه خلقاً آخر .الطور الأخير الذي تحل فيه الروح ،إذاً هو عالم بنا حين النشأة الأولى ،وحين النشأة الثانية في بطون أمهاتنا:{فلا تزكوا أنفسكم} أي: لا تزكوها وتقول عملت كذا وكذا ،وصليت ،وزكيت ،وصمت ،وجاهدت ،وحججت ،لا تقل هكذا ،تُدل بعملك على ربك ،هذا لا يجوز .
فإن قال قائل: أليس الله يقول:{قد أفلح من زكاها} ؟
فالجواب: بلى ،لكن معنى{من زكاها} أي: من عمل عملاً تزكو به نفسه ،وليس المعنى من زكاها من أثنى عليها ومدحها بأنها عملت وعملت ،بل المراد عمل عملاً تزكو به نفسه ،فلا معارضة بين الآيتين ،ولهذا نقول: من زكى نفسه بذكر ما عمل من الصالحات فإنه لم يزك نفسه .فمن زكى نفسه بمدحها فإنه لم يزكِّ نفسه ،وفرق بينهما ،فالتزكية التي يحمد عليها الإنسان أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً تزكو به نفسه ،والتزكية التي يذم عليها أن يدل بعمله على ربه ويمدح ،وكأنه يمن على الله ،يقول: صليت ،وتصدقت ،وصمت ،وحججت ،وجاهدت ،وبريت والدي وما أشبه ذلك ،فلا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه ،وفي هذا رد على أولئك الصوفية الذين يدعون أنهم أئمة ويزكون أنفسهم ،ويقولون: وصلنا إلى حد لا تلزمنا الطاعة ،وصلنا: إلى عالم الملكوت فليس علينا صلاة ،ولا صدقة ،ولا صيام ،ولا يحرم علينا شيء ،وهؤلاء منسلخون من الدين انسلاخاً تامًّا ،ولذلك نقول: هؤلاء الذين يزكون أنفسهم هم أبعد الناس عن الزكاة ،لأنهم أعجبوا بأعمالهم ،وأدلوا بها على الله - عز وجل - وجعلوا لأنفسهم منصباً لم يجعله الله تعالى لهم{فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} كأنه يقول: لماذا تزكون أنفسكم ؟أتريدون أن تعلموا الله بما أنتم عليه ؟الجواب: لا ،ولهذا قال:{هو أعلم بمن اتقى} يعني إن كنت متقٍ لله ،فالله أعلم بك ،ولا حاجة أن تقول لله: إني فعلت وفعلت ،وفي هذا إشارة إلى أن النطق بالنية عند فعل العبادة قد يدخل في نوع من التزكية ،فإذا أردت أن تتوضأ فلا تقل: اللهم إني نويت أن أتوضأ وبعض العلماء يقول: قلها سرًّا ،بينك وبين نفسك ،وعللوا هذا قالوا: من أجل أن يطابق اللسان القلب ،فالقلب نوى ،لكن قل باللسان: اللهم إني نويت أن أتوضأ ،وأنت تصلي قل: اللهم نويت أن أصلي الظهر مثلاً أو العصر ،وبعض العلماء يقول هكذا ،وهم علماء أجلاء من الفقهاء .
فيقال: هذا غلط ،وهذا قياس في مقابلة النص: والرسول عليه الصلاة والسلام لم يشرع لأمته النطق بالنية ،لا في حديث صحيح ولا ضعيف ،ومن الطرف الطريفة أن رجلاً عامياً في المسجد الحرام سمع شخصاً يريد أن يصلي ،فقال بعد أن أقيمت الصلاة: اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات في المسجد الحرام ،ولما أراد أن يكبر قال الرجل: باقي عليك ،قال: ما الباقي ؟قال: باقي التاريخ ،قل: في اليوم الفلاني .أنت الآن ذكرت المكان ،وذكرت العمل ،فاذكر التاريخ قل: في اليوم الفلاني ،من الشهر الفلاني ،من السنة الفلانية .فانتبه الرجل فقال: هل أنت تعلم ربك بنيتك ؟الله أعلم بنيتك{يعلم خائنة الأَعين وما تخفي الصدور} وعند الصيام مثلاً إذا تسحر الإنسان وأراد أن يصوم فإنه لا يقول: اللهم إني نويت الصيام من الليل ؟لأن هذا من البدع ،بقي أن يقال في الحج هل تقول: اللهم إني نويت العمرة ،أو نويت الحج ،أو نية القران أو التمتع ؟لا تقل هذا ،حتى عندما تغتسل وتلبس الإحرام ،لا تقل: اللهم إني نويت العمرة أو نويت الحج ،تكفي التلبية لأنك سوف تقول: لبيك عمرة ،إن كنت في عمرة ،أو لبيك حجًّا ،إن كنت في حج ،أو لبيك عمرة وحجًّا ،إن كنت قارناً ،فلا حاجة إلى التلفظ بالنية فكل العبادات لا ينطق فيها بالنية ،ولهذا قال عز وجل:{هو أعلم بمن اتقى} .