ثمّ يصف القرآن المحسنين في الآية التالية فيقول: ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلاّ اللمم ) .
و «الكبائر » جمع كبيرة ،و «الإثم » في الأصل هو العمل الذي يُبعد الإنسان عن الخير والثواب ،لذلك يطلق على الذنب عادةً ،و «اللمم » على وزن القلمكما يقول الراغب في المفردات معناه الاقتراب من الذنب ،وقد يعبّر عن الذنوب الصغيرة باللمم أيضاً ،وهذه الكلمة في الأصل مأخوذة من الإلمام ومعناها الاقتراب من شيء دون أدائه ،وقد يطلق «اللمم » على الأشياء القليلة أيضاً «وإطلاقه على الذنوب الصغيرة من هذا الباب » .
وقد فسّر المفسّرون «اللمم » في هذه الحدود ،فقال بعضهم: هو الذنوب الصغيرة ،وقال آخرون هو نيّة المعصية دون أدائها ،وفسّره غيرهم بأنّ اللمم معاص لا أهميّة لها .
وربّما قالوا بأنّ اللمم يشمل الذنوب الصغيرة والكبيرة على أن لا تكون معتادة والتي تقع أحياناً فيتذكّرها الإنسان فيتوب منها .
وهناك تفاسير متعدّدة لهذه الكلمة في الرّوايات الإسلامية ،فقد جاء عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال: اللمم الرجل يلمّ به الذنب فيستغفر الله منه{[4830]} وورد عنه أيضاً أنّه قال: هو الذنب يلمّ به الرجل فيمكث ما شاء الله ثمّ يلمّ به بعد{[4831]} .
كما وردت روايات أخرى في هذا المعنى أيضاً .
والقرائن الموجودة في هذه الآية تشهد على هذا المعنى أيضاً ..إذ قد تصدر من الإنسان بعض الذنوب ،ثمّ يلتفت إليها فيتوب منها ،لأنّ استثناء اللمم من الكبائر ( مع الالتفات إلى أنّ ظاهر الاستثناء كونه استثناء متّصلا ) يشهد على هذا المعنى .
أضف إلى ذلك فإنّ الجملة التالية بعد الآية في القرآن تقول: ( إنّ ربّك واسع المغفرة ) !.
وهذا يدلّ على أنّ ذنباً صدر من الإنسان وهو بحاجة إلى غفران الله ،لا أنّه قصد الاقتراب منه ونواه دون أن يرتكبه .
وعلى كلٍّ فالمراد من الآية أنّ الذين أحسنوا من الممكن أن ينزلقوا في منزلق ما فيذنبوا ،إلاّ أنّ الذنب على خلاف سجيّتهم وطبعهم وقلوبهم الطاهرةوإنّما تقع الذنوب عَرضَاً ،ولذلك فما أن يصدر منهم الذنب إلاّ ندموا وتذكّروا وطلبوا المغفرة من الله سبحانه كما نقرأ في الآية ( 201 ) من سورة الأعراف إذ تشير إلى هذا المعنى: ( إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون ) .
ونظير هذا المعنى في الآية ( 135 ) من سورة آل عمران إذ تقول في وصف المحسنين والمتّقين: ( والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ) !
فكلّ هذا شاهد على ما جاء من تفسير «اللّمم » .
ونختتم بحثنا هنا بحديث للإمام الصادق ( عليه السلام ) إذ أجاب على سؤال حول تفسير الآيةمحلّ البحثفقال: «اللمام العبد الذي يلمّ بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبيعته »{[4832]} .
ويتحدّث القرآن في ذيل الآية عن علم الله المطلق مؤكّداً عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول: ( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنّة في بطون أمهاتكم ){[4833]} .
وقوله «أنشأكم من الأرض » إمّا هو باعتبار الخلق الأوّل عن طريق آدم ( عليه السلام )الذي خلقه من تراب ،أو باعتبار أنّ ما يتشكّل منه وجود الإنسان كلّه من الأرض ،حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة ،ثمّ بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضاً .
وعلى كلّ حال ،فإنّ الهدف من هذه الآية أنّ الله مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم انعقدت نطفتكم في أرحام الأمهات في أسجاف من الظلمات فكيفمع هذه الحاللا يعلم أعمالكم ؟!
وهذا التعبير مقدّمة لما يليه من قوله تعالى: ( فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى ) !
فلا حاجة لتعريفكم وتزكيتكم وبيان أعمالكم الصالحة ،فهو مطّلع على أعمالكم وعلى ميزان خلوص نيّاتكم ،وهو أعرف بكم منكم ،ويعلم صفاتكم الداخلية والخارجية .
قال بعض المفسّرين أنّ الآيتين آنفتي الذكر نزلتا في جماعة كانوا يمدحون أنفسهم بعد أداء الصوم أو الصلاة فيقولون: إنّنا صلّينا وصمنا وقمنا بكذا وكذا ..فنزلت الآيتان ونهتهم عن تزكية الأنفس{[4834]} .
/خ32