( 13 ) يمسكون: يتمسكون .
/م163
تعليق على آية
{والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}
هذه الآية التي جاءت في خاتمة سلسلة قصص بني إسرائيل إما أن تكون في مقام الاستثناء أو الالتفات للفريق الذي ظل مستقيما متمسكا بكتاب الله ووصاياه من اليهود الذين حكت الآيات السابقة لها انحرافهم وبيعهم كتابهم ودينهم بأعراض الدنيا .وإما أن تكون استطرادا أو استدراكا تنويهيا بكل من يتمسك بكتاب الله ووصاياه ويؤدي له حق العبادة ولا ينحرف عن ذلك بسبيل مآرب الدنيا وأعراضها التافهة .وليس ما يمنع أن تكون قد تضمنت الأمرين معا .
ولقد احتوى القرآن حملات قارعة على اليهود بسبب انحرافهم الديني والأخلاقي ومكائدهم ضد الدعوة الإسلامية وصاحبها ،وإنكارهم أو كتمهم ما عندهم من بشائر وما يعرفون من حقائق بسبيل ذلك ،غيظا وبغيا وخشية على مصالحهم الدنيوية مما سوف يأتي في مناسباته ،وكان يأتي أحيانا عقب هذه الحملات استثناءات تنويهية لفريق منهم ظل مستقيما في أخلاقه ودينه ،مثل هذه الآيات من سورة آل عمران:{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون110} و{ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون113 يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين114 وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين115} و{وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب199} ومثل هذه الآيات في سورة المائدة:{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنه منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين13} و{ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون} .
ويتجلى في هذه التقريرات روح الإنصاف القرآنية الرائعة في تسجيل حسنات المحسنين والتنويه بهم .
على أن من الواجب أن نسجل أن التقريرات التنويهية القرآنية لم تتناول إلا قلة منهم ،في حين كانت أكثريتهم العظمى وعلى رأسهم أكثر أحبارهم وربانييهم منحرفين عن الحق موغلين في الكيد والتآمر ،على ما تفيده بعض هذه الآيات ،ثم الفصول القرآنية المدنية ،حتى لقد وصل الأمر ببعضهم إلى إظهار إيمانهم بالجبت والطاغوت نفاقا لزعماء مشركي مكة وقولهم لهم: إنهم أهدى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ما حكته آيات سورة النساء هذه:{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا51 أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا52} .
وعلى كل حال ،فالآية التي نحن في صددها تتضمن تنويها بالذين يتمسكون بكتاب الله ووصاياه ويؤدون له حقه من العبادة ،وبشارة وتطمينا بأن الله لا يضيع أجرهم ،حيث ينطوي في ذلك تلقين بليغ مستمر المدى يستوحيه المسلمون أيضا في التزامهم كتاب الله وما فيه من أوامر ونواه وحدود ومبادئ وأحكام وحلال وحرام .
ولقد جاء في سورة الأنعام هذه الآية:{وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون155} حيث يوجه الخطاب فيها إلى سامعي القرآن مباشرة بسبيل الحث على اتباع كتاب الله وابتغاء رحمة الله ورضوانه بذلك .وفي سورة العنكبوت هذه الآية:{أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون51} حيث يوجه الخطاب فيها كذلك إلى سامعي القرآن بسبيل التنويه بما في كتاب الله من تذكير ورحمة لمن يؤمن به .وهذا المعنى قد تكرر كثيرا وبخاصة في مطالع معظم السور التي تبتدئ بالحروف المتقطعة .مثل آية البقرة هذه:{الم1 ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين2} وآيات سورة النمل هذه{طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين1 هدى وبشرى للمؤمنين2} وآيات سورة لقمان هذه:{الم1 تلك آيات الكتاب الحكيم2 هدى ورحمة للمحسنين3} وفي حديث طويل رواه مسلم والترمذي عن جابر عن عبد الله عن حجة رسول الله الوداعية ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما قال في خطبته: ( وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله}{[1004]} .حيث انطوى في هذا حث المسلمين على التمسك بكتاب الله .وهناك حديث رواه الترمذي عن الحارث الأعور قال: ( مررت في المسجد ،فإذا الناس يخوضون في الأحاديث ،فدخلت على علي فقلت: يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث ؟قال: وقد فعلوها ؟قلت: نعم ،قال: أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ألا إنها ستكون فتنة ،فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله ؟قال: كتاب الله فإن فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم ،وحكم ما بينكم .هو الفصل ليس بالهزل ،من تركه من جبار قصمه الله ،ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ،وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم ،وهو الصراط المستقيم ،هو الذي لا تزيغ به الأهواء ،ولا تلتبس به الألسنة ،ولا يشبع منه العلماء ،ولا يخلق على كثرة الرد ،ولا تنقضي عجائبه ،هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد .ومن قال به صدق ،ومن عمل به أجر ،ومن حكم به عدل ،ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ){[1005]} .حيث ينطوي في هذا الحديث أيضا حث قوي على التمسك بكتاب الله مع التنويه بما فيه من هدى ورحمة .وحيث يتساوق كل هذا مع التلقين القرآني .