وإن إبراهيم عليه السلام يمثل في شخصه النبوي ، الرجل الفطري المستقيم النفس في كل اتجاهاتها ، وقد رأينا من فطرته أنه فكر في ذريته كما فكر في نفسه ، والفطرة السليمة تجعله يذكر عند الخير أبويه كما ذكر ذريته ؛ ولذا عندما اتجه إلى ربه طالبا مغفرته ذكر أبويه فقال تعالى على لسانه:
{ ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ( 41 )} .
كان إبراهيم عليه السلام متجها دائكا إلى مقام الربوبية فنادى ربه بالربوبية ، وقد ذكرناها في ذلك من ضراعة المؤمن المقدر لنعمة الإيجاد ، والربوبية ، والقيام على شئونه ، وأنه الحي القيوم القائم على ما أنشأ من خلق ، وهو اللطيف الخبير ، ودعاه بالمغفرة ، وابتدأ بنفسه أولا ، ثم ثنى بوالديه ، وثلث بالمؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر ، سواء أكانوا من ذريته أم كانوا من غيرهم ، فهو دعاء لعامة المؤمنين ، وإبراهيم عليه السلام كانت أدعيته العامة جماعية ؛ لأنه نادى بالأخوة الإنسانية .
وطلب الغفران وستر الذنوب ، ومحو السيئات ، وقيام الحسنات ، يوم يقوم الحساب ، وهو يوم القيامة حيث يكون الحساب بأن يقوم كل إنسان ما قدم من خير ، وقد كتب ما ارتكب من خير وشر ، فهو يطلب من الله في هذا اليوم عفوه وتغليب مغفرته على عذابه ، وذلك بالنسبة للمؤمنين ، وبالنسبة لوالديه .
وهنا يسأل سائل كيف يستغفر إبراهيم لأبويه ، وأبوه بلا ريب كان مشركا يعبد الأوثان ؟ ويقال:إنه كان يصنعها ؟ ونقول في هذا:إن إبراهيم كان رجل الفطرة المستقيمة ، ففطرته الإنسانية المستقيمة دفعته لأن يكبر عليه أن يهتدي وأبوه مشرك ، وأن يعبد الله وأبوه يعبد ، وأن يكون في الجنة وأبوه في النار ، وقد بدا ذلك في مجاوبته ، إذ قال لأبيه:{. . .يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ( 42 ) يا أبت قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا ( 43 ) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا ( 44 ) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ( 45 )} [ مريم] ، طرده أبوه من حضرته مع ما في عبارته من رفق ، وما تشف عنه من محبة ، ولكنه يستمر في رفقه بمقتضى حكم الفطرة ، فيقول:{. . .سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ( 47 )} [ مريم] ، كانت هذه أول موعدة وعدها إياه ، فاستغفر له ولم تكن بينهما بغضاء الضلال التي اتسم بها أبوه ؛ ولذا قال تعالى:{ قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحجه إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء . . .( 4 )} [ الممتحنة] .
إذن كان الخليل عليه السلام يستغفر لأبيه ويطلب له المغفرة ومرتبط معه بمودة لم تفرقها عداوة ، وهذه السورة التي نتكلم في معانيها سورة مكية ، وسورة الممتحنة التي فيها{ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك} مدنية ، وهذا يدل على أن النهي لم يكن حتى سورة الممتحنة ، وجاء النهي بعد ذلك كما يدل عليه قوله تعالى:{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ( 114 )} [ التوبة] .
وقد قلنا:إن إبراهيم عليه السلام تتمثل فيه الفطرة القويمة .