ولقد كان إبراهيم عليه السلام صورة سامية للفطرة الإنسانية ، وأوضح هذه الفطرة حب الذرية والحدب عليها وإكرامها وتوجيهها إلى الحق وإلى عبادة الله تعالى ؛ ولذا قال الله تعالى على لسانه:
{ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ( 40 )} .
النداء إلى الله سبحانه وتعالى بوصف أنه ربه كونه وأنشأنه ، وربه وقام على شئونه يدعوه إلى أن تكون نفسه للعبادة ، يفديه بروحه وبالإيمان ، وإقامة الصلاة ، كما غذاه في بدنه وعموم أحواله ، وحاجاته البدنية ، فيطلب غذاءه الروحي بعد غذائه الجسدي .
ويقول عليه السلام مخاطبا ربه:{ اجعلني مقيم الصلاة} ، أي صبرني وحولني ووجهني إلى أن أكون مقيم الصلاة ، أي مؤديا لها أداء مقوما مستقيما كاملا ، بأن تكون أركانها الحسية مستوفاة ، ومنها الخشوع والخضوع المطلق ، والصلاة رمز إلى القيام بحق الدين كاملا من غير التواء ، ولم يكتف بالدعاء لنفسه بل أضاف إلى ذلك الدعاء لذريته ، ولكن الله تعالى أشار إلى أنه سيكون من ذريته من لا يشكر الله تعالى ، ومن يعصيه ؛ ولذا قال:{ ومن ذريتي} ، و{ من} هنا للتبعيض ، أي اجعل من ذريتي مقيم الصلاة ليكون حبل العبادة متصلا إلى يوم القيامة لا ينقطع التوحيد ، وإقامة شعائره ، بل تتصل إلى يوم القيامة ، ومن ذريته قائمون على الحق يهتدون بهديه ، ويسيرون في طريق الحق ، وهو الطريق المستقيم .
{ ربنا وتقبل دعاء} ( الواو ) عاطفة على{ اجعلني مقيم الصلاة} ، وجاء قوله:{ ربنا} كالجملة تكون بين متلازمين ، وهما هنا المعطوف والمعطوف عليه ، وذكر{ الدعاء} للضراعة والابتهال إلى الله تعالى ، وذكر بضمير المتكلم{ رب} ، والجمع{ ربنا} للإشارة إلى أنه يتكلم عن نفسه ، وعن الصالحين من ذريته ، والدعاء هنا هو العبادة ، إذ هي دعاء لله تعالى وضراعة إليه ، ومن يدعون الأنداد إنما يعبدونها ، وهي لا تضر ولا تنفع ، وفهم بدعوتهم من دون الله سبحانه وتعالى يعبدون ما لا يضر ولا ينفع ، ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدعاء مخ العبادة"{[1378]} فالدعاء من العبادة ، وهو ذاته عبادة .
وقال:{ تقبل دعاء} والتقبل شدة القبول ، وتقبل العبادة من الله تعالى قبولها مع الرضوان ، ومحبة القائم بها .
وإن ذلك يتقاضى أن يكون ذلك من العابد بقلب سليم مخلص طاهر ، لا يقصد بها غير وجه الله الكريم ، لا يرائي به ، ولا ينقض بعضها ببعض ، بل يتجه بكل نفسه لربه لا يكون فيها موطن لغيره سبحانه .