وقال تعالى في أحوال الملائكة الأطهار:{ يخافون ربهم من فوقهم} ، وقوله تعالى:{ من فوقهم} ، قيل معناها يخافون ربهم أن يرسل عذابا من فوقهم ، أو يخافونه ، وهو فوقهم بالقهر ، كقوله تعالى:{ وهو القاهر فوق عباده . . .( 18 )} [ الأنعام] ونحن نرى أن الفوقية هنا فوقيتهم هم ، لا فوقية الله ، والله تعالى فوق كل شيء ، ومعنى فوقتهم علوهم في الخلق والتكوين ، وكونهم أرواحا طاهرة ، وإنهم مع هذه الفوقية يخافون الله تعالى ، فكلما علوا في الروحانية كان خوفهم بمقدار علوهم ، وبذلك يستقيم الكلام من غير تقدير ( يرسل ) أو نحو ذلك ، ويكون متفقا على ختمت به الآية السابقة في قوله تعالى عنهم:{ وهم لا يستكبرون} .
وقد أكد سبحانه وتعالى نفى استكبارهم ، وخضوعهم ، وخوفهم من ربهم الذي خلقهم بقوله تعالى:{ ويفعلون ما يؤمرون} وفيه إشارة إلى إبليس الذي استكبر ، ولم يفعل ما أمره به ربه .
51
الله يأمر بالوحدانية
بعد أن أشار الله تعالى إلى خلق السموات والأرض ، وخضوع الجميع ساجدين ، العقلاء وغير العقلاء ، والأحياء والجماد على معنى جامع بينها ، وهو الخضوع والتسبيح ، وإن كنا لا نفقه تسبيحها فخالقها عالم بها .
بعد ذلك بين أنه سبحانه واحد أحد ، وهو إله وحده فقال:
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله وحد فإيي فارهبون ( 51 )} .
هذه الجملة السامية متصلة بما قبلها بالواو العاطفة ، والواو العاطفة على{ ولله يسجد ما في السموات . . .} ، أي الله الذي يخضع الوجود كله له لا فرق بين حي وجماد ، ولا عاقل ولا غير عاقل ، يقول لكم:{ لا تتخذوا إليهن اثنين} وذكر ( اثنين ) مؤكدا معنى العدد المفهوم من المثنى ؛ لأن المثنى في ذاته يدل على المثنوية ، وكان التأكيد باثنين لأنه وضع النهى ، إذ إن موضع النهى هو أن يكون إلهان اثنان ، وذكر النهى عن اثنين ، لأنه يتضمن النهى عن ثلاثة وأكثر ؛ لأنه إذا كان الأقل منهيا عنه ، فالأكثر أولى بالنهى ؛ ولأن اتخاذ إلهين دلت الآية الأخرى على أنه يؤدي إلى الفساد في السموات والأرض ، إذ إن تعدد الآلهة يلغى الألوهية ويفسد السموات والأرض التي دلت الآيات المتلوة والآيات الكونية على أنهما منظمان أبلغ ما يكون النظام ، قال الله تعالى:{ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( 22 )} [ الأنبياء] ، وإن قياس البرهان على بطلان الشرك المبنى على التنازع يفرض إلهين ، فيقول لو كان إلهان لتنازعا ، ولرجح أحدهما على الآخر على فرض التساوي بينهما ، وإذا تنازعا مع هذا التساوي فسد الكون ، وإذا لم يفرض على التساوي ، كان المتفاضل منهما هو الإله .
ونقول:إن ذكر الإلهين الاثنين فيه إماء إلى هذا الدليل العقلي ، والله أعلم .
{ إنما هو إله واحد} ، ( هو ) دالة على معنى الإله المطلق وهو الله سبحانه ، و ( إنما ) الدالة على القصر ، أي قصر الألوهية على إله واحد سبحانه وتعالى .
بعد ذلك التفت عن الخطاب إلى ضمير المتكلم . فقال:{ فإياي فارهبون} الفاء الأولى للإفصاح والمعنى:إذا كان الإله واحدا ،{ فإياي فارهبون} والفاء الثانية لربط الكلام ، والمعنى إياي أنا وحدي فارهبون ؛ لأنه لا إله إلا أنا ، وقد انتقل سبحانه من مقام التنبيه والتعليل بذكر أدلة الوحدانية في خلق السموات والأرض والتوجيه ، والبرهان إلى التخويف ومن لم يقنعه الخوف والإرهاب .